يتشابه الشعر مع الرسم بشكل كبير، فكلاهما يعتمد الصورة في تشكله، واحد بالكلمة والآخر باللون، وغالبا ما نجد الرسامين بدورهم يعبرون عن لوحاتهم بجمل شعرية، وهناك أيضا من الرسامين من يجمع بين الفن التشكيلي وكتابة الشعر على غرار الشاعر والفنان المصري سامح قاسم. “العرب” التقت قاسم في هذا الحوار حول الشعر واللوحة وقضايا ثقافية أخرى. تشكل تجربة سامح قاسم بين الشعر والفن التشكيلي والصحافة وكتابة المقال عالما خاصا، يمتلئ بالثراء المعرفي والثقافي والفني، ويتسق مع رؤيته لعالم مأزوم وواقع حياتي مختل ومضطرب بالتناقضات، ويتجلى ذلك في نصه الشعري ولوحته التشكيلية بشكل خاص. في تجربة قاسم يكاشف النص واللوحة أحواله في مواجهة هذا العالم البائس، الأمر الذي أكسب التجربة فرادة في نسيجها، فالصورة ناصعة في لغتها وفنيتها وموقفها بالنص وكذا حركة اللون والشخصية ودلالاتها في اللوحة، فيما يكشف المقال الصحافي عن أبعاد وملامح الانحياز لقراءة تجليات الإبداع ومواقفه في مواجهة الأزمات التي تعترض طريق الحرية والجمال. الشعر والرسم يقول قاسم عن تكوينه المعرفي والثقافي “عندما كنت تلميذا بالمرحلة الإعدادية كانت تستهويني حصص التعبير، وأتذكر معلم اللغة العربية الذي كان حريصا على أن أقرأ على زملائي ما كتبت.. وعندما أنتهي يصفق لي بحرارة، فأعود إلى البيت كمن حقق نصرا عظيما، وعندما كنت أقص على أبي ما حدث يطلب مني أن أقرأ الموضوع نفسه أمامه، وإذ به يكافئني بأن أهداني دفترا جميلا ومجموعة كبيرة من الكتب التي كانت تصدرها الهيئة العامة للاستعلامات، وحثني على المداومة على القراءة والاستمرار في الكتابة. بالمناسبة أبي كان رساما رائعا لم يترك أحدا في عائلتنا أو جيراننا إلا وأهداه لوحة من لوحاته وما زال البعض يحتفظ بها في بيته حتى الآن”. سامح قاسم ويتابع “في يوم من الأيام عاد أبي ومعه ديوان ‘الوطن الجمر‘ للشاعر الراحل محمد صالح فطلبت من أبي أن أقرأه، وحدث بعدها أن زرنا الشاعر الراحل في بيته حيث تربطنا به علاقة قرابة وتحدثنا عن الشعر وقال لي إذا أردت أن تكون شاعرا اقرأ هذا جيدا وأشار بيده نحو ‘المصحف‘”. يقول قاسم “قادني محمد صالح إلى دواوين شعراء قصيدة النثر، وفي منتصف التسعينات كنت قد أنهيت ديواني الأول ‘كان ذلك في أبريل‘ وظل حبيسا بدرج مكتبي أكثر من عامين إلى أن شجعني أحد الأصدقاء على خوض تجربة النشر، وبالفعل تقدمت لإحدى دور النشر وهي من الدور التي تبنت أغلب أعمال جيل التسعينات ورحبت الدار بنشر الديوان واتفقنا، وبعد أيام قليلة سلمني مدير الدار البروفة الأولى لأراجعها، لكني لسبب ما لم أعد للدار مرة أخرى، ووضعت البروفة بدرج المكتب إلى أن تعرفت على الفنان التشكيلي أحمد الجنايني الذي كان وقتها يصدر ‘كتاب المرسم‘ وعرضت عليه الديوان ورحب بنشره، لكن لم يره أحد بالشكل المطلوب بسبب ضعف التسويق والتوزيع”. ويشير الشاعر “أكتب بإيقاع معقول لكني أخشى النشر، وعندما أنتهي من ديوان مثلا يسألني أحد الأصدقاء لماذا لا تنشره أقول له مازحا ما قاله بورخيس ‘أكتب فقط لنفسي وللأصدقاء، أكتب لمجرد أن يخفّ مرور الزمن‘. أو ما قاله بيسوا ذات مرة ‘حتى واقعة أني سأنشر كتابا ستبدل حياتي.. لن أعود أبدا كاتبا لم يُنشر له – سأفقد شيئا ما‘. أحيانا تنتابني حبسة الكاتب خاصة بعد نشر أي كتاب، حينها أهرب إلى اللوحة والألوان. الرسم محاولة للبقاء قريبا من المتعة، متعة الفن. كما أنه محاولة لتفريغ ما تبقى من التجربة التي انتهيت منها مؤخرا، ربما هذا ما يفسر انسجام اللوحات مع ديوان ‘كتاب الأرق‘، الصادر عن دار روافد للنشر وهي الدار نفسها التي سبق لها وأن نشرت كتابي النثري ‘ميل إلى السعادة‘”. وحول انسجام النص في ديوان كتاب الأرق مع تجليات لوحته التشكيلية وإمكانية أن يأتي النص انعكاسا للوحة يقول قاسم “لا أعرف هل اللوحات تبدو انعكاسا لقصائد الديوان وإلى أي مدى يتجلى هذا الانعكاس. لكن ربما فالأرق ثيمة أساسية في الديوان، وكذلك العيون المفتوحة على اتساعها أو المجهدة والمحمرة أو الشخصيات التي تبدو مسهدة ووحيدة في ليلها الطويل أو تلك التي يجانبها من الناحيتين النور والظلام أو الليل والنهار، تطلع إلى النهار، لكن الليل يثقل عليها. أو تلك التي أعطتنا ظهرها واتجهت باحثة عن ملاذ آمن تعرف فيه طعم النوم والراحة والطمأنينة بعد أن أرقتها همومها الشخصية وطال نفورها من الحياة وواقعها المأزوم وقضاياها التي تبدو معقدة وبلا حلول منطقية أو حتى غير منطقية”. ويضيف “ربما كل هذا هو ما جعل البعض يرى أن اللوحات تعكس قصائد ‘كتاب الأرق‘ أو هي الوجه الآخر للديوان. وهذا أمر طبيعي لأنك حين تكتب أو ترسم فأنت تريد أن تعبر عن معاناتك وتبوح أو تفصح عما يشغل ذاتك كإنسان قبل أن تكون مبدعا أو فنانا. بإمكانك أن تنسى كل هذا ودعني أقول لك ما قاله همينغواي ‘أنت تكتب حينما تعترضك الكلمات’. وبوسعي أن أزيد على ما قال ‘وترسم حينما يعترضك وجه قريب من روحك"”. واقع ثقافي عالم خاص يرى قاسم أن للمرأة تجليات متعددة ومختلفة في الكثير من لوحاته، يقول “ربما يعود ذلك إلى ظني أن كل ما له قيمة في هذا الكون مؤنث بدءا من الأم التي تحتويك في رحمها ومرورا بالأرض والسماء وغالبية ما يقع بينهما من عناصر البقاء. المرأة هي الحياة فمرة تأتيك مقبلة، وثانية مدبرة، وثالثة عابسة، متجهمة وغاضبة، ورابعة تضحك لك، وأخرى جميلة ومغوية. وهكذا. فأنا أعبر عن أي شعور يعتريني من خلال وجه المرأة. ويؤكد “ليس هناك كاتب أو فنان لا يتأثر بما يجري حوله من أحداث، ونتيجة هذا التأثر أو الانفعال قد ينتج نصا أو عملا فنيا. ومهما بالغ في الإصرار أولئك الذين يؤكدون على ضرورة أن يكون الفن بعيدا عن الاشتباك مع ما يقع أو ما يجري حولنا، فإن إصرارهم هذا سيظل نظريا، فلا أحد يستطيع أن يبدع وهو منعزل عن بيئته ومجتمعه وما يشغلهما”. ويضيف قاسم “كل الأعمال العظيمة التي نتحدث عنها ونفاخر بها كانت بنت زمنها ومجتمعها بما فيهما من أزمات وإخفاقات. وبما أننا نعيش منذ سنوات في ما يشبه الجرح المفتوح والذي لا نعرف كيف يلتئم، ولا نعرف إلى أي مدى سيتسع هذا الجرح أو إلى متى سيظل بمقدورنا تحمل الألم الناتج عنه، فنحن أمام حالة من الخوف واللا طمأنية والانتظار المحفوف بالحذر للغد القريب وربما البعيد أيضا. هذه الحالة انعكست على بعض اللوحات حيث الشخصيات التي ترى أول الضوء قادما من بعيد، لكنها لا تستطيع السير نحوه حذرا وخوفا من المصير”. ويوضح قاسم علاقته بالصحافة “عملت لسنوات طويلة مسؤولا عن القسم الثقافي بصحف مختلفة، وعلى الرغم من أن دورالصحافة الثقافية في مصر والعالم العربي تراجع في السنوات العشر الأخيرة بسبب وضع الصحف من ناحية، بالإضافة إلى ظهور منافس جديد للصحافة بشكل عام وهو مواقع التواصل الاجتماعي، فإنه لم يعد أحد ينتظر أن يقرأ خبرا لصدور كتاب أو نصا لكاتب مثلا في جريدة ورقية، فهذه النوعية من الأخبار وغيرها بإمكانك أن تطالعها في فيسبوك أو تويتر”. الصفحات الثقافية ويلفت إلى أن “الصفحات الثقافية ما زالت تمارس غيها القديم وهي النشر للمكرسين، وبالتالي تنعدم فرص الكتاب الشباب، خاصة أولئك الذين يقيمون في محافظات بعيدة ونائية، في الظهور ومعرفة القراء بهم. ما زال بعض المحررين الثقافيين يعتمدون على الأسماء المعروفة ليضمنوا لموضوعهم أن يطالعه عدد أكبر. لكن لا نستطيع أن ننكر أن هناك صحفا ومواقع إلكترونية بها أقسام ثقافية جيدة تتابع ما يجري بالوسط الثقافي من شعر ورواية وقصة ومسرح، لكن لا توجد للأسف مساحات كافية للفن التشكيلي، وبالتالي فإن الضوء على الحركة التشكيلية والفنانين التشكليين خافت تماما”. ويضيف قاسم “حتى النصيب الأكبر من المساحات المفرودة للنقد غالبا ما يمنح لنقاد الأدب. أما نقاد الفن التشكيلي فنصيبهم من هذه المساحات قليل للغاية. ثم يأتي أحدهم ويقول إن مجتمعاتنا تعاني من أمية بصرية. بمقدورك أن تتابع الصفحات الثقافية في عالمنا العربي شهرا كاملا لترى بنفسك كم خبرا وكم حوارا وكم تغطية لحدث أو معرض فني مقارنة بأخبار الكتب والحوارات التي تجرى مع الكتاب والأدباء.
مشاركة :