جمع الشاعر البريطاني الشهير سيسل داي لويس بين كتابة الشعر والرواية، كما كتب للأطفال وكتب في النقد الأدبي وألف بعض السيناريوهات، لكن تبقى تجربته الشعرية ركيزة أساسية في مشواره الإبداعي الثري، حيث كان من أهم الشعراء المجددين في بريطانيا، وطال تأثيره الشعر الأوروبي والغربي عامة، إذ كان يتحرك وفق رؤية نقدية دقيقة، طارحا أشكالا جديدة للقصيدة، التي نسجها من السهل الممتنع، مبتكرا إيقاعات أخرى لم يعهدها الشعر الإنجليزي من قبله. خلوّ الساحة الأدبية العربية من نصوص شعرية مترجمة لشاعر بلاط المملكة المتحدة؛ الشاعر والناقد سيسل داي لويس، شكل دافعا أساسيا للكاتب والمترجم السعودي حسن مشهور للبحث في أعماله وترجمة مختارات من قصائده، مقدما لها بدراسة معمقة تتبع فيها تجربة الشاعر الإبداعية سواء الشعرية أو الروائية أو النقدية. وعمد مشهور في كتابه “سيسل داي لويس تلقي الصورة وبنية الخطاب” للبحث والتقصي في الأسباب الكامنة والرئيسية وراء تشكل شاعرية سيسل إلى جانب دراسة شعره وسرده، مترجما ديوانه الشهير “من الريش إلى الحديد”، بالإضافة إلى اترجمة العديد من أجود أعماله الشعرية. سيرة حياة يؤكد المترجم والناقد في كتابه، الصادر عن مؤسسة أروقة للنشر والترجمة، أن داي لويس يعد أحد أساطين الشعر الإنجليزي على وجه التحديد، الذي تمكن مع مجايليه من الشعراء أمثال أودين وسبنسر وعيزرا باوند وإليوت، من تغيير خارطة الشعر الأوروبي سواء على مستوى البنية أو التشكيل أو اللغة المُزاحة، كما أن قدرته الخارقة على تشكيل الصورة الشعرية قد مثلت حدثا استثنائيا في معادلة كتابة الشعر العالمي. الأمر الذي يجعل من تجربته الشعرية؛ حدثا تعبيريا يتطلب من المهتمين بالدرس النقدي المزيد من البحث والتفكيك. ويقول مشهور “إن قضية شاعرية داي لويس، تكمن جذورها في طفولته، فهو قد ولد في أيرلندا من والدين إنجلو – أيرلنديين، وكان اسم عائلته في الأصل داي، بيد أن جده كان قد أضاف لقب عمه للعائلة ودعا نفسه داي لويس. ولذا فعندما قام الشاعر باعتماد لقب عائلته الجديد، وأعني به داي لويس على منشوراته ونتاجه الكتابي بداية من عام 1927، فإن هذا الأمر قد مثل مصدرا للمتاعب بالنسبة إلى أمناء المكتبات ومراجع الببليوغرافيين منذ ذلك الحين. في عام 1905، انتقلت عائلته إلى مالفيرن، في رسيستيرشاير. ثم ما لبثت أن عاودت الانتقال إلى إيلينغ، غرب لندن في عام 1908، وذلك حين بلوغ شاعرنا عمر الرابعة”. في هذا الديوان حقق الشاعر جزءا بنيويا مهما في القصيدة الحديثة وهو ما يسميه النقاد "الوحدة الانتقالية المرغوبة" ويتابع “توفيت والدته بعد وصولهم بفترة قصيرة، تاركة الشاعر وهو طفل وحيد بحاجة لكمّ كبير من حب والده بعد فقدانه المبكر لأمه. إلا أن هذا الأمر لم يتحقق له على الوجه الأكمل، وذلك عائد لكون الأب كان أحد رجالات الدين الذين يغلب على مشاعرهم وتصرفاتهم الانضباط والمثالية الزائدة على حساب المشاعر الشخصية والإنسانية عموما”. ويذكر المترجم أنه لكون الأب رجل دين، فقد كان من المفترض أن يتبعه سيسل في خطواته تلك. فنحن نجده يورد في سيرته الذاتية، التي نشرت في عام 1960، وعنونها “الأيام المخبئة”، أنه قد بقي في منزل والده يتلقى تعليمه منزليا حتى بلوغه الثامنة من عمره .كما أشار فيها كذلك إلى أنه قد كتب النصوص الشعرية والقصص القصيرة والخطب التي تتسم بـ”حياديتها الدقيقة” في سن مبكرة من عمره.ويضيف مشهور بأنه على الرغم من هذا النجاح الجزئي، فإن داي لويس قد استمر يلقى الصعوبات المتتالية في نشر المزيد من أعماله الشعرية. بل إنه لم يتمكن من إقناع أي شخص آخر بنشر ولو قصيدة واحدة. ولذا فقد تطلب الأمر منه ثلاثة أعوام أخرى حتى تمكن من نشر مجموعته الثانية التي كتبها وهو لم يزل طالبا وحملت عنوان “المذنبات القطرية” وكان ذلك في عام 1928. يعكس الاتجاه نحو الشعر ذي الصبغة الشعرية الجورجية التي أوحى بها إلينا ديوانه الأول “وقفة احتجاجية”. فالطابع الشعري المبكر لداي لويس، نابع من التأثير المحتمل لمحبته العميقة الأولى لفتاة كانت تدعى ماري كينغ. إن ديوان “المذنبات القطرية” يعد أكثر نضجا في التجربة الشعرية من ديوان داي لويس الأول. فالمفردة الشعرية فيه كانت أكثر دقة وتعكس في ذات الوقت حبه النقي لمعشوقته ماري كينغ، كما نلمس في بنية القصيدة بعدا فكريا ينم عن تلك المعرفة الفلسفية العميقة التي قام بتحصيلها أثناء دراسته في أكسفورد. السهل الممتنع ويوضح مشهور أن أفكار داي لويس الخاصة حول شكل الشعر الجديد تتجسد في كتابه الشهير “القصيدة الانتقالية”، الذي تم نشره في عام 1929. فهو قد كتب معظم محتوى هذا المجلد في شتاء 1927 – 1928، عندما كان يقوم بالتدريس في مدرسة سامر فيلد الإعدادية في أكسفورد، كان هذا المجلد عبارة عن سلسلة من الشعر الغنائي، وكان مقسما إلى أربعة أجزاء ويستخدم مجموعة متنوعة من الاستانزا، وهي أشكال من المقاطع التي يكتب بها الشعر الإنجليزي. وعندما نشر المجلد للمرة الأولى، فإنه قد كان مصحوبا بملاحظات علمية، ولكنها ليست على ذلك القدر من الفائدة الكبيرة، كما أنها كانت في الوقت ذاته على نفس المنوال الذي اتبعه الشاعر الكبير ت.إس. إليوت، في “الأرض اليباب”. تقصي في الأسباب الكامنة والرئيسية وراء تشكل شاعرية سيسل تقصي في الأسباب الكامنة والرئيسية وراء تشكل شاعرية سيسل إن أفكارا عدة تتعلق بالقصيدة؛ كالوحدة الموضوعية وأن كل جزء في النص يمثل بذاته وحدة موضوعية وليست سردية، قد تمت إثارتها في هذا المُؤَلَف، بيد أن الأفكار الرئيسية المتعلقة بهذه الموضوعات لم يتم نقاشها وشرحها بما يكفي. إذ نجد أن داي لويس في خضم تعليقاته المدونة في مؤلفه هذا، يسعى إلى تعريف الفكرة الرئيسية في التجربة الشعرية بأنها أشبه ما تكون بالسعي المطرد للوصول إلى الكليّة، في حين تتناول أجزاء العمل الشعري المختلفة كالميتافيزيقا والتشكيلات الأخلاقية والنفسية والجمالية، الجوانب المشكلة لهذا السعي. لقد كان مجلد القصيدة الانتقالية، تقدما ملحوظا في تجربة داي لويس الشعرية مقارنة بكتابيه السابقين ويعد في واقعه شهادة ماثلة على نضج داي لويس كشاعر. ويشير المترجم إلى أن ديوان “من الريش إلى الحديد” (1931) يمثل أهمية كبيرة في تجربة داي لويس الشعرية. فهو قد سطر فيه سردية تتسم بما ندعوه بالسهل الممتنع فدمج فيه تلك التحولات التي تطال سيكولوجيا الفرد الذي يكون بانتظار القادم. وجرب كذلك أن يتلمس الخطى التي ستطال هذا الرمز الأيقوني”أي الطفل الوليد” عند قدومه إلى عالمنا الذي يحوي صراعات وتعقيدات لا تحصى. في هذا الديوان الشعري حقق داي لويس كذلك جزءا بنيويا مهما في القصيدة الحديثة وهو ما تعارف النقاد على تسميته بـالوحدة الانتقالية المرغوبة. ويظهر أيضا جليا في النص تأثير صديقه الشاعر أودن عليه بشكل واضح، لكن هذا التأثر قد أتى بنتيجته المرجوة المثلى، فهو ما ساهم في تقوية إيقاعات النص وزاد من حدة تأثيره. وهكذا فما إن حل عام 1932 ونُشرت بعض أعمال داي لويس إلى جانب أعمال صديقيه أودن وستيفن سبيندر في مجلد “مختارات الشعر الإنجليزي الحديث” الذي قام بنشره مايكل روبرتس وحمل مقارنة لتجارب هؤلاء الشعراء بشكل كان لافتا للأنظار إلى حد الدهشة؛ حتى كانت أسطورة العظام المجددين الثلاثة في الشعر العالمي الحديث داي لويس، أودن، سبنسر، قد مثلت للعيان، وكان هذا الأمر بمثابة إعلان عن ولادة هذه التجديدية في الشعر الإنجليزي الحديث خاصة. الثالوث المجدد عن كتابة داي لويس النقدية، لفت مشهور إلى أنه عندما عمد إلى كتابة مؤلفه النقدي الأول “أمل من أجل الشعر”، الذي نشر في عام 1934 ركز فيه على تأصيل فكرة بعينها، مفادها أن “الطفرة الأخيرة في الشعر” مرتبطة في واقعها بالكتابات الشعرية لصديقيه سبنسر، وأودن، بالإضافة لكتاباته الشعرية هو أيضا. وقد عرج في كتابه هذا بالإضافة إلى هذا الادعاء بريادة الشعر الإنجليزي المعاصر هو وصديقاه إلى مقاربة أسماها بـ “الأمل المتواضع”، مفادها أن جيله هذا قادر على أن ينتج شاعرا له مكانة ييتس، أو سلامة شعر هاردي، أوحتى الأسلوب الشعري لدى لا ماري. ونجد كذلك بأن داي لويس يتحدث في كتابه هذا عن قضية “الثورات الشعرية”، التي يراها من وجهة نظره الشخصية بأنها أمر جيد ومعتاد جدا في الشعر الإنجليزي .إذ يرى أنه من خلالها تتولد التجديدية في الشعر الإنجليزي ويتحقق حضوره في الآداب العالمية ويستشهد على آرائه هذه بأسماء كانت لأصحابها أدوار مطردة في توليد العديد من الثورات الشعرية التي عملت على إحداث نقلات نوعية في الشعر الإنجليزي وأعادت تجديده، أمثال: هوبكنز، وويلفرد أوين، وت. إس. إليوت. بصوره الدقيقة تمكن الشاعر من تغيير خارطة الشعر الأوروبي سواء على مستوى البنية أو التشكيل أو اللغة كما يعرج على قضية أسماها “الحضارة الصناعية”. التي يرى أنها قد قطعت الإنسان والشاعر كذلك عن التقاليد الاجتماعية والتراث. بالإضافة إلى إحداثها شرخا في العمل وفي بنية المجموعة السوسيولوجية التي يمكن من خلالها زيادة التواصل الشعري بين الشاعر وقرائه. ثم لا يلبث أن يستدعي تحليل قضية أسماها “مرض المجتمع”، حيث يعمد إلى التأكيد على فكرة أن الشاعر يحتاج إلى “مجتمع سليم ليعمل كشاعر”، وهذا الأمر الأخير، قد عزاه بعض المؤرخين الأدبيين، إلى احتمال أن يكون الباعث لاعتقاد داي لويس به أنه قد يكون جراء تعاطفه مع الأيديولوجيا الشيوعية. ويرى مشهور أنه في الوقت الذي يختزل فيه ديوان “جبل المغناطيس” تلك الصراعات الداخلية التي يختلج بها فؤاد داي لويس والتي عكستها شخصيات النص كالمدعى عليهم والأعداء، والتي انتهت بطردهم دون التوصل إلى تسوية أو حل، فإن عددا من القصائد التي حفل بها إصدار داي لويس التالي وأعني به ديوان “زمن للرقص” قد جعلت الشعر يتموضع خارج معضلاته. إذ نجد في هذا الديوان أن الشاعر يستخدم صورا للحرب، لتصوير الصراع بين ادعاءات الماضي والمستقبل ممثلة في “الوريث والجد” وتحديدا في قصيدة “في عالمي الاثنين”. أما في النص الشعري المعنون بـ”الصراع”، فإننا نلحظ أن الشاعر يرى نفسه بأنه يمثل طائر أغنية يحيا في صراع لا يسمح بالحياد، وعن ذلك يقول “فقط هي الأشباح التي يمكن أن تعيش بين النارين”. ولعل من أكثر قصائد الديوان أصالة هي تلك التي عنونها بـ”رأس جوني يَشْتَمّ الهواء” فهذه القصيدة تعد في الواقع من القصائد الأكثر تجديدا في الشعر الإنجليزي، على الرغم من أسلوبها الذي يندرج تحت نوعية شعرية قديمة تدعى “الموال الشعري”، هذا إلى جانب أنها تعد قصيدة مستمدة، فهي “تناص شعري” من أحد النصوص الشعرية التي كان قد كتبها أودين. نماذج من المختارات كلمة مقتضبة للأعداء لا زلت كما أنت، تحمل ذات السؤال! أي نوع من الرجال هذا الماثل للعيان؟ يقيني ليس بقدر أو قيمة لعبة البندول ذاك البندول الذي يـتأرجح يمنة ويسرة. **** أقواس لا طوعية تبرهن على وجوديتها ما بين الضحى والمساء. **** بحثنا في كل أرجاء المعمورة لم نجد أي تواصل بين الإنسان أو أي مخلوق سامٍ آخر. تلك العلامات المنضبطة هي مكون آخر من أدوات الوقت. ردة فعله كانت باهتة توقف، ومضى الوقت. الصراع أصدح بالغناء وكأني أجلس إلى ركن مائل من هذا المركب. يعلو صوتي بالغناء كي أبث فيهم الشجاعة وأبقي على حماستهم، رغبة انتهاء غضبة البحر التي كادت توردهم المهالك. وهدأت أمواجه فقد شدت العاصفة المهلكة ملقية بأسئلتهم التلقائية بفم الريح لا يعنيها إن أدى ذلك لانقطاع أنفاسهم وانتهاء نسل الربيع. فمثلما كانت أسماك المحيط الطيارة تتشبث بآخر قطرة من الروح كانت الأرض تنتظرنا لنفوز بمتعها ونعمل ونرقى للعُلى. **** كنت أشدو في سلام في أعالي السحب فقد وجدت أن: الانفراج السريع يستوطن أغنية، وأن الفخر يسكن الاتزان. **** لا يزال في هذا المقام يحيا كمن توسط قوتين ساحقتين غاشمتين. أنا من يحيا في دنيا غادرها الفرح وعالم يخلو من الأمان. ****
مشاركة :