تحملنا تجربة الشاعر السوري نوري الجراح الشعرية على استعادة الأساطير والتراث الحضاري المشترك لحضارات المتوسط، حيث يعيد بناء السردية التاريخية منذ هوميروس إلى قوارب المهاجرين السوريين الغارقة في بحر إيجه، تاريخ مديد ملأه الغربيون بما يريدون من سرديات، بينما الحقائق مخفية في الأساطير. وفي كتاب “رسائل أوديسيوس وشعرية الكينونة” نجد مختارات من قصائد الجراح التي تؤكد طريقته الخاصة في بناء شعري مختلف، وهو ما يؤكده المقال التالي. تصدر هذه المختارات لنوري الجراح عن شعرية وجود وكينونة، شعرية خصام مع الذات لا شعرية خصام مع الآخر. فمن خصامنا مع الآخرين – يقول ييتس- نصنع البلاغة، ومن خصامنا مع أنفسنا نصنع الشعر. والبلاغة هنا علم علائقي لا يتجاوز نظام الكلام أو العروض أو التفعيلة أو الإيقاع. وكما هو معروف فإن أفلاطون وضع مصطلح Rhetoric لتتمكن الفلسفة من تمييز نفسها عن البلاغة التقليدية وما يتصل بها من فنون البيان وأساليب الأداء، بالمغايرة والاختلاف. ثمة بلاغة أخرى أود أن أحتفي بها وبالشاعر نوري الجراح، أحد أبرز أعلامها المتميزين، هي بلاغة التحليق بلا أجنحة مسبقة الصنع، بلاغة أجد لحمتها في ما دعوته بـ”شعرية الكينونة” وسُداها في ما سأدعوه بـ”القصيدة الحرة”. الحداثة الثالثة وأنا استعمل هنا مصطلح “القصيدة الحرة” تمييزا له عن مصطلح “قصيدة النثر”، وقد تأكد لي من حوارات مع الشاعر أنه يعتمد المصطلح نفسه في تعريف شعره، فهو لا يملك محمولاً معرفياً مقيداً، وذلك خلافاً لمصطلح “قصيدة النثر” الذي مازال محموله المعرفي يحيلنا باستمرار إلى إشكالية مراوغة تتمثل في النزعة المركزية الأوروبية وسيطرة المفاهيم المستمدة منها على جانب لا يستهان به من الثقافة العربية. صحيح أن هذه المختارات التي تعتمد الأداء الشعري-النثري ذات أبعاد تتماهى حيناً وتفترق حيناً آخر مع نماذج شعرية وفكرية مستمدة من المركز الأوروبي، إلا أنها كثيراً ما تتقاطع أو تلتقي دون أن يكون لقاؤها- بالضرورة -حصيلة تماه مع هذا المركز. إيضاحاً لما أعنيه بشعرية الوجود والكينونة أشير إلى أن لهذه الشعرية بلاغتها الجوَّانية وإطارها التعييني الخاص. وهي بذلك تختلف عن البلاغة الخارجية التقليدية التي رفضها ييتس، بلاغة الخصام مع الآخرين. كما أشير إلى أن التنويه بمفهوم الشعرية في ضوء صدمة الحداثة، يقتضي الإشارة إلى حدوث ثلاثة إبدالات متعاقبة والمقصود بالإبدال هنا- حسب توماس كون – هو عملية حلول الباراديغم Paradigm أي الصيغة المعرفية المعتمدة في تعريف الشعر محل صيغة معرفية معتمدة أخرى، وذلك من خلال حراك نخبة ثقافية فاعلة ومؤثرة تقترح معايير خطابِ شَرْعَنَةٍ ليست مغايرة فحسب بل مناوئة، معايير شرعنة تنفتح على اعتبارات تهدف إلى تحريرها من هيمنة تعريفٍ نقدي مهيمن. حركة التغيير هذه، انطلاقاً من اقتراحات نخبةٍ بلورت وتبلور المفاهيم السائدة حول التحققات الجمالية والفكرية في الثقافة العربية، يمكن التمثيل عليها في ثلاث عمليات إبدال Supersession: طريقة خاصة في بناء شعري مختلف طريقة خاصة في بناء شعري مختلف الإبدال الأول: يتمثل في نقض الحداثة للقدامة في الشعر صياغة وبنية وأساليب أداء، واعتماد مقاييس بعضها مستمد من خصائص موروثة وبعضها الآخر متأثر – في سياق العلاقة بين المركز والهامش- بخصائص أسلوبية وبنائية نوعية تحولت بفعل هيمنة النزعة المركزية الأوروبية إلى خصائص جوهرانية ثابتة إلى حين، ولكنها تتغير بفعل تغير المؤثر الخارجي. الإبدال الثاني: ويمكن إثباته في ما نشهده من اشتغال على إحلال الرواية محل الشعر باعتبارها ديوان العرب الجديد، وذلك بتبني تراتبية قيمية إقصائية المنزع ومستمدة من عمليات تسليع Comodification)) الجنس الأدبي في ضوء اختبارٍ قوامُهُ رواج الرواية في الغرب على حساب الشعر. هذه التراتبية لا تعتمد الموازنة، أو المقارنة أو المقايسة بين الأجناس الأدبية في فضاء معرفي منفتح على مدونة هائلة من النصوص الإبداعية الشعرية وعلى ما طرأ على أفق الحساسية والتعبير من تحوير أو تعديل، بل تقوم بدلاً من ذلك على مفاضلة مطلقة تنتمي معاييرها إلى لغة الرواج السلعي. ولا شك عندي في أن ما أدعوه “الحداثة الثالثة” المؤسِّسة لضرب من الشعرية العربية المنقطعة انقطاعاً معرفياً عن قواعد التقطيع والعروض، وما تواجهه من عقبات معرقلة لشرعنة هذه القطيعة، هذه الحداثة أسهمت بدورها في تفعيل تلك التراتبية الاقصائية التي طرحت الرواية بديلاً من الشعر. الإبدال الثالث: هو إحلال “قصيدة النثر” التي تُطرح من خلال تعريفها الملتبس والمستمد من مرجعيات غربية محلَ “قصيدة الشعر” إذا صح التعبير. ولكن التعريف الغربي لهذا الضرب من النثر أو الشعر إذا شئت، هذا الضرب الذي يبدو مسيطراً على ما دعوته بـ”الحداثة الثالثة” في الشعر العربي مازال إشكالياً مفعماً بنصيب ضخم من الجدل والجدال. فخلافاً للأجناس الأدبية الأخرى وما يتفرع عنها من أنواع فإن علاقة قصيدة النثر بالشعر، وبسرديات النثر وأنواعه، اختلافاً وائتلافاً، علاقة تبدو مقلقة في مهادها الغربي نفسه. فبينما تصف مرجعية ذات شأن هي موسوعة برنستون للشعر قصيدة النثر بأنها قائمة على تناقض قوامه الجمع بين نقيضين Oxymoron يرى بوالو Boileau (1636-1711) الشاعر والناقد الفرنسي الذي أثر تأثيراً ملموساً على الأدبين الفرنسي والإنجليزي قبل ثلاثة عقود أن الشعر نثر مبهرج وأنه ليس ثمة فرق نوعي بين النثر والشعر. آية ذلك كله أن تعريف قصيدة النثر في المصادر الغربية مازال، على ما يتسم به من تقلقل والتباس، مرجعية قصيدة النثر العربية على مستوى التنظير. ويصح القول هنا إن هذه المرجعية النقدية ظلت نظرية معزولة عن سياقها العملي في الممارسة. والأسوأ من ذلك أن الإلحاح في النقد على الالتزام بقواعد غربية لهذه النظرية قد أفضى بنا إلى الترويج لأصولية حداثية مكرِّسة لإعادة إنتاج مستحيلة يقلِّد بها الهامشُ المركزَ تقليداً حرفياً، في علاقة مرآوية بين أصلٍ عاكس وصورة معكوسة. والتبعة في هذا لا تقع على شعراء الحداثة الثالثة بطبيعة الحال، ونوري الجرَّاح منهم، فلكل من هؤلاء أو لبعضهم على الأقل، مرجعيته الخاصة التي لا يمكن اعتبارها مرجعية إيكاروسية مجهضة إذا صح التعبير. كما أن مصطلح “قصيدة النثر” على مستوى التنظير والممارسة، مازال فضفاضاً. ولهذا السبب بالذات أرى أن من الأفضل تجنب التعريفات الجاهزة التي تصادر على هذا الضرب من الشعر وعلى إمكانات تطوره الطبيعي وذلك عندما تحيله –طائعاً أو غير طائع- إلى هامش مرتبط بمركز خارجي يتغير باستمرار. ولا شك عندي في أن هذه التعريفات لا تنطبق على قصائد يمكن اعتبارها “قصائد حرة” بامتياز، تمثلها تجربة الشاعر نوري الجراح، إن في هذه المختارات أو في بقية شعره، إلى جانب تجارب شعراء آخرين من مجايليه. هذه المختارات، إذن، تطرح إشكالية تعريف ما أود أن أدعوه بـ”الحداثة الثالثة”، أي الحداثة المتحررة كليا من أنظمة الكلام أو العروض أو التفعيلة أو الإيقاع، كما ألفناها مع شعر سابق، وهو تعريف غير مقيد ويسهم، بشكل أو بآخر، في عملية تذوق الشعر الجديد في “رسائل أوديسيوس”. وهذا الشك في علاقة النص الشعري بمصطلح “قصيدة النثر” ليس انتقاصاً من قيمة قصيدة نوري الجراح، بل هو دفاع عنها، وتجنبٌ للخفة النقدية المتمثلة بالمحمول المعرفي الأيديولوجي المنزع والذي ينطوي عليه مصطلح “قصيدة النثر” في الثقافة العربية. البلاغة الخاصة لغة نوري الجرّاح هي بلاغته الخاصة التي تكتبه ولا يكتبها لغة نوري الجرّاح هي بلاغته الخاصة التي تكتبه ولا يكتبها في ظني أن هذا المحمول المعرفي لا علاقة له بالنماذج المعروضة في هذه المختارات. فعلى الرغم من سطوة المؤثرات الغربية التي تؤكد اكتمال المفهوم الغربي في الشعر، وهي مؤثرات يحفل بها، بطريقة أو أخرى، شعر نوري الجراح، يظل أداؤه دلالةً وبنيةً وطريقةً، شعراً عربياً بكل تأكيد. فإذا كنا نتذكر بين الحين والآخر أن الشاعر قد قرأ بعمق وحذر شديدين (وهذا مثال أراه مناسبا) قصائد تي.أس. إليوت، وبخاصة “أربعاء الرماد”، و”أربع رباعيات”، وتوقف قليلاً أو كثيراً عند رامبو، وبودلير وويتمان وبو ودي كوينسي وكازانتزاكيس، فإن هذا لا يعني أنه لم يقرأ بعمق أيضاً، مثله مثل بعض أبناء جيله الشعري، “ترجمان الأشواق” لابن عربي، و”المواقف والمخاطبات” للنفري، و”عذابات” الحلاج، و”شطحات” البسطامي، و”لطائف” السهروردي وفريدالدين العطار، و”مثنوي” جلال الدين الرومي. من المحقق أن مسألة العالمية في الأدب والعلاقة بالآخر، ليست جديدة، وإنما هي تحيلنا – بسرابها ويقينها- في تراثنا الصوفي العربي الإسلامي على وجه الخصوص، إلى الإشكالية نفسها. يقول ابن عربي في “ترجمان الأشواق”: رأى البرقَ شرقياً فحنَّ إلى الشرقِ/ ولو لاح غربياً لحن إلى الغرب/ فإن غرامي بالبروق ولمحها/ وليس غرامي بالأماكن والتربِ. هذه العالمية التي تقوم على وحدة الوجود، العالمية المنفتحة على الآخر ليست مغايرة للكوزموبوليتانية. كما أنها ليست نقيضاً للخصوصية الثقافية. بل أرى أنها تفيض أحياناً على مفهوم العالمية نفسه بدلالاته الفكرية والجمالية. وبهذا المعنى يصح القول إن ابن عربي مؤسس لمفهوم راديكالي أطلق عليه دولوز وغواتاري مصطلح نزع سلطة المكان Deterritorialization أي تقويض مفهوم ارتباط الفكر بالجغرافيا. المكان هنا يدلنا على تحرك الشاعر في رحلة مستمرة وأما الرحلة فتظل رحلة جوانية قوامها شعرية الكينونة. وعلى الرغم من أن قصائد الجرَّاح غالباً ما تذيَّل بذكر المكان الذي كتبت فيه فإن احتفاءها بالمكان له دلالة أوتوبيوغرافية بامتياز. وهذا التقويض أو الفصم بين الفكر والجغرافيا نقيض لما فعله هيغل عندما تحدث عن بومة “منيرفا” رمز المعرفة التي لا تحلق إلا عند الغسق، ليزعم بذلك أن الحضارة اليونانية والأوروبية عموماً، لا علاقة لها بالآخر، وإنما هي حصيلة معجزة مكانية قائمة بذاتها. معجزة مَثَّلَ عليها ببومة لا تحلق في سماء الشرق المشمسة، بل في سماء غسق أوروبا وحدها. تذكرت ابن عربي وهيغل لدى قراءتي لـ”رسائل أوديسيوس” مراراً وتكراراً. ولا تقتصر هذه الاستعادة على المقارنة بين عالمية التصوف لدى الشيخ الأكبر، وبين مركزية أوروبا لدى الفيلسوف الألماني فحسب، بل تتسع لتشمل ما أشار إليه راسل وبرنال وبيركرت حول تتلمذ اليونان على السوريين القدماء الذين تعلمت منهم الأبجدية. ففي الأساطير اليونانية – كما هو معروف – أن قدموس السوري أخذ بيد شقيقته يوروبا (أوروبا) ليعلِّمها الكتابة. كما تتسع الاستعادة من طرف آخر إلى ما هو معروف أيضاً من أمر الميراث الثقافي المشترك بين التراث المصري والبابلي القديم من جهة، والتراث اليوناني من جهة أخرى. وعندما يستعير نوري الجراح رمز أوديسيوس وعوليس (اسمه باللاتينية) فإنه ينضم بذلك إلى لائحة طويلة أدرجها هارولد بلوم في كتابه The Western Canon وتشمل الذين استعادوا بطل هوميروس، بدءاً من بندار وسوفوكل ويوربيدس وهوراس وفرجيل وأوفيد وسينيكا ودانتي وكالديرون وشكسبير وغوته وتنيسون وشللي وصولاً إلى جويس وكازانتزاكيس. هذه الاستعادة في مثال الشاعر نوري الجراح تنحصر في حدود ما يسمى بـ”الإلماعة” Allusion أي الإشارة الموحية إلى شخصيات تحيل القارئ إلى حقل دلالي هو الملحمة الهوميرية ومحورها أوديسيوس (عوليس). والإلماعة كما سيلاحظ القارئ معي، وسيلة لتحريك سلسلة من التداعيات التي تمتح من مخزون اللاوعي لدى المتلقي من الأفكار والصور والمعاني التي تتصل برحلة خائبة. والحال أنه لا يمكن النظر إلى رحلة بطل هوميروس، وهي رحلة خيبة دائرية الشكل إلا باعتبارها أحد أبرز الأمثلة على نظرية الأنماط الأسطورية العليا Archetypes كما عرضها “يونغ” في بحثه حول اللاشعور الجمعي. هذا المفهوم للرحلة الدائرية الإيكاروسية المنزع، يظهر في رسائل نوري الجرّاح إلى أوديسيوس على شكل تقمص تراجيدي لشخصية بطل الملحمة الهوميرية في حقل دلالي مباشر حيناً، وغير مباشر حيناً آخر. وفي هذا الأفق تدور شخصيات أسطورية أخرى يستبطنها الشاعر قناعاً، يقلبها على وجوهها، مستقصياً دلالاتها التي تتجاوز ألعاب المجاز، في إلماعات (مفردها إلماعة) Allusion ترمز إلى أنماط أسطورية عليا ثاوية صار الإلمام بوجودها جزءاً وثيقاً من بنية كوزموبوليتانية للأدب الحديث تصدر عن رؤية محددة للعالم. لكن الإلماعة إلى أوديسيوس على وجه الخصوص تبدو أشبه بموسيقى خلفية خافتة الصوت، أو قل موسيقى غير صائتة، موسيقى ذات نزوع أنطولوجي ثاوٍ في الأعماق. قصيدة “لا موت في الموت” تبرز شعرية الكينونة هذه كبؤرة يحركها مزاج رابسودي ترتد إليه قصائد المختارات التي لا ينتظمها تتابع خطي وإنما هي تتحرك على نحو دائري صعوداً أو هبوطاً، لتعترضك على حين غرة باستمرار. وتبعة هذا المزاج الأنطولوجي – كما أسلفت – بروز كينونة شعرية تنسج بلاغتها الخاصة.. كينونة شرنقة تتحشرج بصوت كارل كراوس: “لقد تمرست بلغة الآخرين.. وأما لغتي فهي التي تفعل بي ما تشاء”. لغة نوري الجرّاح، إذن، هي بلاغته الخاصة التي تكتبه ولا يكتبها. انظر مثلاً إلى مونولوغ “صعود إبريل” الدائري البارع والذي يذكر بعود نيتشه الأبدي، أو زئبقية الكلمات الرجراجة في “نهار آخر”، أو محاولة الخلق من عدم Creation Ex Nihilo في “موت نرسيس”، أو إلماعة السقوط المدوي في “إيكاروس”، أو الحس الفجائعي في قصيدته “خفة محترقة” التي يقول فيها: “أنا يا ربُّ فمي ممسوك بالصمغ/ وكلمتي مرساة ثقيلة/ من هنا، من هذه الأعماق/ رأيتُ صرختي في فِراشٍ وجسدي في فِراشٍ،/ ولمْ أبرحْ/ مسحوراً، أطوفُ حيثُ هلكتُ”. أو البلاغة الشخصية جداً في قصيدته “حفيف يموت” التي يقول فيها: “إليَّ بالشُّعلةِ/ السُّهادُ يملأ عيني/ لكأنني فُتاتُ شخصٍ في تُرابٍ./ اليَرَقَةُ قُصاصَةٌ تهبُّ/ لكنَّ جسدي معتمٌ وثقيلٌ/ لستُ هنا، ولستُ هناك/ لستُ في أرض لأتحرَّكَ/ الحافَّةُ ترسلُ الإشارةَ، والصَّمتُ يستطلعُ../ رئتي، أيضاً، مكسورةٌ/ وما أحسُّ../ الهواءُ همسُ أوراقٍ تَتَكَسَّرُ،/ حفيفٌ يموتُ./ لكأنني نَفحةٌ،/ شخصٌ يلهو في هاوية ملوَّنةٍ”. هذا اللهو في هاوية ملونة، أو قل لهو الشاعر في متاهةٍ، بما هو خصام مع الذات، ينتج بلاغته الخاصة عبر ثلاث تقنيات درامية معبرة عن شعرية الكينونة: النجوى، والمونولوغ، والمونولوغ الدرامي. وكل ذلك من عناصر المسرح الذي هو أحد المصادر الأثيرة لدى الشاعر. وهذه التقنيات، أو قل أشكال التعبير تتحقق في القصائد من خلال حركة لابس أقنعة أوديسيوس، وديدالوس، وتليماخوس، وأورفيوس، ونرسيس، وإيكاروس. ثمة أقنعة متعددة، إذن، ولكن الوجه واحد، وجه نوري الجرّاح الأوتوبيوغرافي بامتياز.. وجه سيرة ذاتية تتوحد فيها أنا الشاعر بأنا العمل الفني. الملحمة النقيض استعادة الأساطير في تراجيديا الحاضر استعادة الأساطير في تراجيديا الحاضر استرعت “رسائل أوديسيوس” انتباهي للوهلة الأولى منذ سنوات، وقمت بترجمتها إلى الإنجليزية لتقدم في مهرجان شعري برعاية الـBritish Council. في النص يتلبس نوري الجراح قناع أوديسيوس بطل ملحمة هوميروس. وفيها تقابل أنا الشاعر أنا أودبسيوس المُتَلَبَسْ. ولكن الملحمة تتحول منذ البداية إلى ما يدعى بـ”الملحمة النقيض” mock epic، الملحمة الشخصية المصغرة التي صيغت جماليتها بحامل معرفي قائم على محاكاة عمادها النقض والنفي. وقوام هذه الجمالية أمران: الأول هو استعادةٌ لا تحاكي في علاقتها بملحمة هوميروس المحاكاة بالمعنى الأرسطي. القصيدة هنا ليست محاكاة مرآوية بل سردية نقض ونفي موازية. وهذا التحويل من الأسطوري العالم إلى الذاتي الخاص يذكرني بقصيدة إليوت “أغنية العاشق بروفرك” الذي كان أثرها الملموس بينا في الشعر العربي الحديث. بروفرك ليس الأمير هاملت مثلما أن الشاعر هنا ليس أوديسيوس. أما الأمر الثاني فهو أن القصيدة تقدم صورة مصغرة عن هذه المختارات، وما أعنيه هنا هو التأسيس لعالم الشاعر في شعرية الكينونة. تبدأ بتساؤل شخصي سجالي لتنتهي بمطابقة ضدية بين المصائر إذا صح التعبير. وربما أمكن القول إن المطابقة معارضة نصية بين الذاتي والأسطوري، يقول الشاعر: مَنْ جاء بيتي ساعَةَ لمْ أكنْ ورأى الدمَ في السَّتائر/ مَنْ لمَسَ الباب، مَنْ طافَ في الغُرَفِ/ من نَظَرَ سريري؟/ أنا لستُ أوديسيوس حتى يكون لي معجبون/ قرؤوا قصتي، وجاؤوا يعزّونني/ لا/ ولستُ أوديسيوس/ لتكون لي أختٌ/ تُطرِّزُ/ على الماكِنة/ شالاً، أو قميصاً/ لشقيقها الغائب./ لستُ أوديسيوس/ لامرأة ماتت ودُفِنَتْ تحت السلَّم/ لستُ أوديسيوس/ لأمٍ./ لستُ أوديسيوس/ لابنٍ./ لستُ أوديسيوس لأختٍ./ أنا لستُ أوديسيوس/ وهؤلاء الذين صُرِعوا وتَخَبَّطوا في فِناء منزلي/ صَرَعَهُمُ القَدَرُ. مَنْ جاءَ بيتي في عَرَبَةٍ/ مَنْ جاءَ خِفيةً/ وعندما لمْ أكُنْ/ مَنْ فَتَحَ الخزائنَ وقَرأَ رسائلي التي أرسلتُها لنفسي/ أنا/ أوديسيوس/ المَيْتُ في باخرة. جاء في كلام هوميروس في الأوديسة قوله عن المهاجرين السوريين إلى اليونان بأنهم “عمال عموميون”. ولكن من هم أولئك على وجه التحديد؟ إنهم الحرفيون المهرة craftsmen الذين يصفهم والتر بركرت أستاذ الحضارة في جامعة زيوريخ، بحَمَلَةِ ثورة التشريق. هذه الثورة، يقول، دشنت دوراً مركزياً في صناعة الثقافة اليونانية في عصرها الهيليني. هوميروس يبين على وجه التحديد أن صناع الحضارة في تلك الفترة يجمعون بين: “العراف والطبيب مضمد الجراح، وبين النجار والمغني الإلهي” على حدّ تعبيره. وما ينطبق هنا على الصناعة ينطبق على الفن بعامة. غير أن الفن بوصفه سحراً يفترض بدئياً السؤال عن معنى “المغني الإلهي” فنياً، وعن معنى الرؤية والرؤيا. المغني الإلهي بلغة هوميروس هو الشاعر الرائي قطب علاقة الاتصال، المد والجزر، التأثر والتأثير. بركرت يرى أن المغني الإلهي هو المعبر عن “التأثير الأدبي الحقيقي والمباشر للحضارات الشرقية على المرحلة النهائية من ملحمة هوميروس. وهذا يعني بداية التدوين الإغريقي بحلول الكتابة محل التقاليد الشفوية”. ويضيف “الجسر الذي يمثل الصلة المباشرة يتمثل في الحضارة الأدبية لسوريا القديمة”. هكذا تصير الكتابة هنا ليست مسألة لغوية وحسب، وإنما محاولة ابستمولوجية لإعادة تعريف الحضارة الكلاسيكية. فأوروبا كما هو معروف هي “شقيقة قدموس السوري الذي علمها الكتابة” وبعبارة أخرى فإن ما تقدم يحيلنا إلى حفريات مارتن برنال الذي يفند الأطروحة السائدة التي يحددها تضامن برز في القرن الثامن عشر بين الأيديولوجيا والابستمولوجيا. برنال يثير سؤالا خطيراً في كتابه المهم “أثينا السوداء: الجذور الآسيوية الأفريقية للحضارة الكلاسيكية”، وقد خصصه لما دعاه بـ”فبركة اليونان القديمة 1785-1985”. انطلاقاً مما تقدم لا أريد الإيحاء بالرغبة في استبدال أيديولوجيا غربية مهيمنة وإحلال نقيض شرقي محلها، بل الإشارة إلى عولمة قديمة، إلى عالمية الحضارة. فكل أصل -على حد تعبير إدوارد سعيد- يومئ إلى أصل أبعد منه. ولعل مفهوم ابن عربي في التشريق والتغريب الذي أشرت إليه في المقدمة، والذي يعزز علاقة الذات بالآخر، يذكر بنفسه مجدداً في قصيدة “قارب إلى ليسبوس”. لا يقول نوري الجراح أكثر من هذا في استعادته البديعة لتراث حضاري مشترك، بل يفتح الهامش على المركز، والمركز على الهامش، في سيرورة إرث ميثولوجي متوسطي متصل ومتواصل. فمن خلال تجربة قوارب الموت الخلاصية العمياء إلى جزيرة ليسبوس، تعبر هذه القصيدة الملحمية عن نزع سلطة المكان على حركة الإنسان وعن تقويض حتمية ارتباط الفكر بالجغرافيا. ولكن هذه الاستعادة ذات النشيج ليست مِرآوية، ليست إعادة إنتاج، لأن خيار السوري الهارب من عسف الطاغوت خيار خلاصي لا يحركه حب المعرفة بل تدفعه الضرورة المعصوبة العينين والمنفلتة من كل عقال. انتقل إلى “لا حرب في طروادة: كلمات هوميروس الأخيرة”، أقول قصيدة ملحمية لافتة قوامها حياكة الأصل بمدحلةِ مَحْوِهِ على محك كوني. وفي ذلك لا يحرر الشاعر النساج النص من النص، بل يستعيد عبر هوميروس أصوات مقتلة دمشق، عبر تقنية ما بعد حداثية، يتقاطب فيها اليومي السوري والأسطوري الإغريقي يقول: “ادفنونا في الزوارق وادفنوا الزوارق في البحر،/ لا قبر في الأرض يسع صوت الناي”. إنها التغريبة السورية الكبرى بامتياز. أخلص إلى القول إن شعرية الشاعر هنا هي شعرية الكينونة بما هي خصام مع الذات. ولهذا فإنها تتجلى في الانفتاح على أفق شعري مغاير بالضرورة، أفق لا تقيده التنظيرات المسبقة التي تصادر باسم تماهي الهامش مع المركز، على مفهوم للشعرية، قوامه الدُّرْجَة (الموضة)، وهي تنظيرات تذكرنا أحياناً بهجاء كيركغارد لفلاسفة يشيدون قلاعاً شاهقة فيما هم يسكنون في أكواخ آيلة للسقوط. إن أيقونية تجربة نوري الجراح لا تكمن في أنه أدخل تأويله الشخصي على الشعر الملحمي فحسب، بل وفي أنه تمكن في “لا حرب في طروادة: كلمات هوميروس الأخيرة” على وجه التحديد، ووفقاً للموهبة الأكثر إفصاحاً، من أن يُدخل جنساً أدبياً جديداً كل الجدّة، على الشعر العربي، وأعني به “الملحمة النقيض” وهو، كما أسلفت، جنس أدبي معروف في الأدب الإنجليزي، لا يُقَلِّد ولا يُحاكي بل يسخر من البطولة نفسها في مواجهة المأساة. لسوف يحتفي ذواقة الشعر بهذه التجربة المعبرة بصدق، وبالأداء البارع والمبتكر عن محنة السوريين في مصائرهم التراجيدية، وهي بلا شك، تشكل إضافة ذات شأن إلى المنجز الشعري العربي الحديث.
مشاركة :