الكذب قد يكون دليلا على حريتنا | أبو بكر العيادي | صحيفة العرب

  • 10/1/2020
  • 00:00
  • 4
  • 0
  • 0
news-picture

لا ينحصر اهتمام المفكرين في الغرب في حقلهم المعرفي، بل يتعداه ليشمل الواقع في شتى تجلياته، ومن بين تلك التجليات النشاط الأدبي ومنجزاته، فهو مثال عمّا بلغه الفكر الإنساني من تطور، ومرآة يمكن أن يتطلع فيها الدارس إلى خصائص مجتمع ما وقيمه وأنماط عيشه وتفكيره. هنا يقع التركيز على التخييل، هل يستنسخ الواقع أم ينفصل عنه؟ وهل يفي بالواقع أم يتنكر له؟ في إحدى مقالاته كتب الفيلسوف الفرنسي بول ريكور أن الخيال الفني، وكذلك السياسي، يدمّر العالَم ليخلق مقترح عالم آخر، ما يعني أن الكذب دليل على حريتنا، نبتكر ونختلق ما شاء لنا الخيال دون اعتبار للواقع. فكيف يمكن أن نفتح مثل هذه الممكنات دون الوقوع في نفي الواقع؟ لو أمعنا النظر في هذه المقولة لوجدنا صداها بوضوح أكبر لدى حنا أرندت حين أوضحت تقارب ملكة الكذب ونكران الحقيقة بشكل سافر، مع قدرة الفعل التي تسمح بتغيير العالم. فكلتاهما تنطلق من الخيال وممارسة حرية يمكن أن تولدّ ما هو غير مسبوق ولا متوقَّع. ذلك أن الكاذب يستفيد من هذا الفارق الدقيق ليمرّ بخبث من تحويل الواقع إلى تدليسه وتزويره. وبذلك يحرفّ تلك القيمة البشرية الأصلية ونعني بها الحرية، التي تسمح لنا بأن نتجنب عن طريق الفكر ما يحيط بنا، ونتخيل أن الأشياء يمكن أن تكون غير ما هي عليه، وحتّى أفضل مما هي عليه. الممارسات التخييلية حين يعتمد أراغون ما أسماه “الكذب بصدق” كمنهج حكي، إنما كان يعني أن التخييل السردي يمكن أن يحمل “حقيقة” أقرب إلى الواقع من مجرد استنساخه، لأنه يذهب أبعد من بداهة العالم كمعطى قارّ، ويسمح بتخيل طرق أخرى للإقامة في العالَم. بعبارة أخرى تسمح قدرة التباعد عن المرجعية الأولى للواقع بإعادة تكييفه وتصنيفه وإثرائه من خلال تحرير وظيفة الاكتشاف. بهذا المعنى، تحدث بول ريكور عن الأدب وقدرته على “تحطيم العالم” ليلتحق بمقترح آخر للعالم، عالم يمكن أن نسكنه ونضفي عليه إمكاناتنا. عندئذ يمكن أن نتحدث عن “حقيقة ينبغي تحقيقها” حتى وإن كانت في ذلك مفارقة وفق المصطلحات الكلاسيكية عن الحقيقة والتثبت، كمعادلة بين الشيء والعقل تضمن واقعية الشيء وحقيقته. والمقترح كما أكد ريكور في رأيه أعلاه يستقيم في المجال الجمالي، ويستقيم أيضا في الحقل السياسي، حيث أن بعض الممارسات التخييلية، كاليوتوبيا أو مقابلتها الديستوبيا، تنأى عن الواقع لتضيء الواقع الاجتماعي كما هو. وهذا المخيال له وظيفة منحرفة عن المركز، فهو يبتعد عن المجتمع في صورته الماثلة ويضعه مؤقتا على مسافة ليفتح حقل الممكنات. بيد أن خصوبة هذه التخييلات، ولاسيما السرديات الديستوبية، لا تصمد أمام حقيقة أنها ينبغي أن تتحقق تحت الملامح التي وضعت فيها. فهي ليست مقترحات بديلة يمكن أن تعوّض العالم الواقعي، لأنها تُنتج في أغلب الحالات، إذا أخذنا مضمونها بعين الاعتبار، أشكالا باتولوجية أو توتاليتارية. ومن ثَمّ ينبغي مقاربة سطلتها التجريبية الاستكشافية بشكل مغاير والاهتمام بالكيفية التي يغدو فيها “لا مكان” اليوتوبيا قبل كل شيء خزّانا لخيال يزعج الواقع ويقلقه ويحلّ الغرابة محلّ البداهة المزعومة. العمل التخييلي أكثر قدرة على كشف الحقيقة لمرحلة أو كائن بشري من الدراسات التاريخية والبيولوجية وغيرها إن المسافة القائمة بين مرجعية من الدرجة الأولى (المجتمع كما هو) تتيح إمكانية مساءلتها واستخلاص وعي نقدي منها. وهي الوظيفة التي يسبغها ميشيل فوكو على ما أسماه “الهيتيروتوبيا”، تلك الفضاءات الأخرى الموجودة داخل المجتمع دون أن تكون “لا مكان” لكونها نوعا من “اليوتوبيا الموضعية” كالحدائق والمقابر والبيوت الوردية المغلقة ونوادي العطل… فهي في نظره عبارة عن احتجاجات، أسطورية وواقعية في الوقت نفسه، على الفضاء الذي نعيش فيه. هذه الملاحظات تبيّن أن مثل تلك الممارسات التخييلية، سواء أكانت جمالية أم سياسية، ليست واقعا بديلا على المنوال الذي تقترحه الأيديولوجيات التوتاليتارية أو “ما بعد الحقيقة” الناجمة عن باتولوجيا المجتمعات الديمقراطية. ففي حين تعمل السرديات التخييلية المبدعة على استكشاف ممكنات جديدة، تعمل “ما بعد الحقيقة” على تغطية الواقع برداء من عدم التمييز، وتقرّ نوعا من الليل “تكون فيه الأبقار كلّها رماديّة” بعبارة هيغل، أي عالما شبيها بذلك الذي وصفه أورويل في رواية “1984”، حيث تزول فكرة الحقيقة تماما، وتختفي القدرة على التمييز بين الحدث والخيال، بين الصواب والخطأ، لأن التمييز نفسه لم يعد له وجود. في هذا العالم، الذي فقد صفته كعالم، زالت قوة المخيال في الوقت نفسه الذي امّحت فيه قوة الحقيقة. فضياع العالم هنا يشهد عن ضعف الخيال بنفس القدر الذي تتراجع فيه الحقيقة. كشف الحقيقة مقاربة أخرى في باب التخييل والواقع بين الصّدق والكذب، قام بها مفكّر عرف بتخصصه في المقدّس والمدنّس، ولم يمنعه ذلك من الاهتمام بالمتن الروائي والنظر إليه من زاوية تخرج عن مجال تخصصه في الظاهر، ولكنها تصبّ فيه في المحصلة النهائية، بوصفه فيلسوفا يهتم بما يجعل الحياة جديرة بأن تعاش على هذا الكوكب. في كتاب “كذب رومانسي وحقيقة روائية” يميز روني جيرار بين الرواية الحق والرواية الرومانسية، ويرى أن الأولى تختلف عن الثانية اختلاف الصدق عن الكذب. الرواية كجنس أدبي لا تتحدد في رأيه بشكلها بل بمضمونها، وبقيمة ذلك المضمون تحديدا. هذا الجنس يكون روائيا إذا قال حقيقة الإنسان، ورومانسيا إن هو أخفاها. يقول جيرار إنه وجد هذه الحقيقة عند خمسة روائيين كبار هم ثربانتس وستندال وفلوبير وبروست ودستويفسكي، إذ استطاعوا برغم اختلافهم أن يرسموا عن الإنسان الوجه نفسه. كلهم كشفوا عن الحقيقة ذاتها، والمفارقة أن هذه الحقيقة هي عدم أصالة الكائن البشري، بمعنى زيفه. من المفارقات أيضا أن يكون العمل التخييلي أكثر قدرة على كشف الحقيقة العميقة لمرحلة أو كائن بشري من دراسة تاريخية أو بيولوجية أو سيكولوجية أو أنثروبولجية أو وثائقية. كيف نفسر مثلا أن أي جزء من “الكوميديا الإنسانية” لبلزاك، يقدّم من خلال حكاية مبتكرة جوهر مرحلة الاستعادة وملكية يوليو (الاسم الذي أطلق على الحقبة الملكية الدستورية الليبرالية تحت حكم لويس فيليب 1830 – 1848) بطريقة أفضل من كتاب تاريخ؟ وأن مسرحية “آخر خان” لأريان منوشكين تقول ما لم تقله كل المقالات والتحقيقات الميدانية مجتمعة عن فاقدي المأوى؟ يمكن أن نقول الشيء نفسه عن شريط لبرغمان أو بازوليني، أو عن قصيد لروني شار، أو لوحة لواتّو، أو منحوتة لجاكوميتّي، فكلها تصوّر حقيقة الإنسان العميقة المربكة، بشكل يخالف الحقيقة الظاهرة. والسبب أن العمل الفني ليس مجرد رسالة، بمعنى حقيقة ينبغي تمريرها أو الإبلاغ عنها (لأن ذلك سيحيد بنا إلى الأيديولوجيا)، فالحقيقة تنشأ في الفعل الإبداعي، وتنبثق من أزمات يسميها ميشيل ليريس “اللحظات التي يبدو فيها الخارج يستجيب بغتة لأمر من الداخل”، إذ هي لدى الفنان موضوع بحث: أن يجعل المرئي لا مرئيّا، ويُسمِع ما لا يَسمع، ويخلق عالما موازيا، لا يجد الداخل إليه رسالة أو أخلاقا أو درسا، بل يقابل نفسه ويتحمل جرائر مقابلته.

مشاركة :