صدمة 1973 النفطية وأثرها على الاقتصاد الغربي

  • 10/1/2020
  • 01:00
  • 2
  • 0
  • 0
news-picture

قبل قرابة أربعين سنة تسبب الذهب الأسود في حدوث أزمة اقتصادية حادة في فرنسا التي وجدت نفسها غارقة في مرحلة من الكساد الذي ضرب مختلف القطاعات الاقتصادية، الأمر الذي أدى إلى أزمات اجتماعية مركبة بسبب ارتفاع معدلات التضخم وتفاقم البطالة.في يوم 16 أكتوبر 1973 قررت الدول الأعضاء في المنظمة المنتجة والمصدرة للنفط «أوبك» زيادة حادة في أسعار النفط في الأسواق العالمية. بعد يوم واحد، أي 17 أكتوبر 1973، وفي خضم حرب أكتوبر، أنشأت الولايات المتحدة الأمريكية جسرا جويا فوريا مع إسرائيل، بينما زودت بدورها إسرائيل بالأسلحة وسُمح للأمريكيين باستخدام المطارات الهولندية لإمداد ودعم الدولة العبرية.فرض الحظر الكامل على هولندا وتسع دول أخرى بسبب دعمها لإسرائيل، فيما تواصل تزويد المملكة المتحدة وفرنسا بالنفط من دون انقطاع، ذلك أنهما قد رفضتا السماح للولايات المتحدة الأمريكية باستخدام المطارات وحظر الأسلحة. فرضت تخفيضات جزئية في الإمدادات النفطية على ست دول أخرى.قررت الدول الأعضاء في منظمة أوبك الرد على الانحياز الأمريكي لإسرائيل، فقررت قطع الصادرات النفطية عن الدول الداعمة للدولة العبرية في حربها ضد الجيوش العربية. وأدى قرار المقاطعة الذي اتخذته منظمة أوبك إلى تضاعف أسعار النفط في الأسواق العالمية أربع مرات في أربعة أشهر ليرتفع من 2.32 دولار للبرميل الواحد إلى سعر 9 دولارات.ورغم أن فرنسا لم تكن مستهدفة بقرار المقاطعة فإنها قد تضررت كثيرا بتداعيات القرار الذي اتخذته منظمة أوبك. فقد تراجعت تنافسية الشركات الفرنسية وتفاقم العجز التجاري. ففي سنة 1975، انخفض معدل الإنتاج الصناعي بنسبة 10%، كما أفلست الكثير من الشركات التي تراكمت ديونها وتضررت تنافسيتها، وهو ما أدى إلى تفاقم معدلات البطالة وازدياد أعداد طالبي الشغل.في سنة 1975 وصل عدد العاطلين عن العمل إلى 500000 ألف شخص، وهي أرقام غير مسبوقة في فرنسا التي ظلت تحقق التشغيل الكامل. تفاقمت الأوضاع الاقتصادية حتى تجاوز عدد العاطلين عن العمل عتبة المليون سنة 1977 والمليونين سنة 1981 قبل أن يقفز عدد العاطلين في فرنسا إلى ثلاثة ملايين شخص سنة 1993.في خضم التداعيات التي انجرت عن قرار المقاطعة الذي اتخذته الدول الأعضاء في منظمة أوبك، عرفت فرنسا أول عجز عام. ففي الفترة الممتدة من سنة 1973 إلى سنة 1975 كان العجز يمثل 0.2% من الناتج القومي الخام، قبل أن ترتفع تلك النسبة إلى 1.4% خلال الفترة الممتدة من سنة 1976 إلى سنة 1978. شهدت سنة 1974 التصويت على آخر مشروع للميزانية المالية بفائض قدره 8.5 مليارات فرنك فرنسي (6.4 مليارات يورو حاليا). وظلت فرنسا منذ تلك الفترة تشهد عجزا متواصلا في مشاريع ميزانياتها المالية السنوية.اتسمت تلك الأزمة النفطية بكثير من القوة والعنف وخاصة أنها حدثت في سياق إقليمي ودولي يسوده التوتر وخطر الصراعات والحروب. فمنذ سنة 1971 لم تعد العملة الأمريكية الدولار قابلة للتحويل والتثمين بالذهب، وهو ما ألحق أضرارا كبيرة ببقية العملات الأخرى التي فقدت قيمتها. أدى ذلك إلى ارتفاع النفط في الأسواق العالمية بشكل كبير على الفور، كما اشتدت الضغوط على النظام المالي مما أفضى إلى حالة من الركود الاقتصادي وارتفاع معدلات التضخم التي استمرت قائمة حتى أوائل الثمانينيات، فيما تواصل ارتفاع أسعار النفط حتى سنة1986. أما في الولايات المتحدة فقد ارتفع سعر التجزئة للجالون من البنزين من متوسط 38.5 سنتا في مايو 1973 إلى 55.1 سنتا في يونيو 1974، فيما فقدت بورصة نيويورك للأوراق المالية في وول ستريت 97 مليار دولار من قيمة أسهمها خلال ستة أسابيع فقط.في سنة 1972، أنشأت الدول الأعضاء في السوق الأوروبية المشتركة، الذي قام على أساسه الاتحاد الأوروبي في شكله الحالي، شبكة تربط بين عملاتها مع الإبقاء على هامش صغير للتقلبات في أسعار العملات، وقد وجد الفرنك الفرنسي صعوبة كبيرة في التأقلم مع هذا النظام النقدي الأوروبي الجديد.في تلك الفترة العصيبة والمليئة بالتحديات الداخلية والإقليمية والعالمية، كان بيير ميسمار يتولى رئاسة الحكومة الفرنسية وقد أعلن منذ سنة 1973، أي في خضم الحرب بين العرب وإسرائيل والتي استخدم خلالها العرب سلاح النفط، سلسلة من الإجراءات الرامية إلى خفض استهلاك الطاقة، كما أطلقت الحكومة الفرنسية برنامجا كبيرا لتطوير الطاقة النووية وتلبية احتياجات الاقتصاد الفرنسي، وذلك في شهر مارس من سنة 1974.تولت وكالة اقتصاد الطاقة اتخاذ وتطبيق إجراءات صارمة في خضم أزمة 1973 النفطية، إذ إنها منعت اللوحات الدعائية الضوئية للحد من استهلاك الكهرباء، كما فرضت حظرا على إضاءة واجهات المحلات والمكاتب الإدارية غير المشغولة، وذلك ما بين الساعة العاشرة ليلا والسابعة صباحا.قررت وكالة اقتصاد الطاقة أيضا الحد من سرعة السيارات، كما فرضت معايير صارمة تنظم استهلاك الطاقة وخاصة في مجال مشاريع البناء والتشييد الجديدة وفي القطاع الصناعي أيضا. يقول أوليفييه آبيرت الخبير والمستشار في مركز «إفري» للطاقة: «لقد تواصلت تلك الإجراءات حتى الفترة الفاصلة ما بين 1985 و1986 وقد كانت نتائجها أكثر سرعة من برنامج تطوير الطاقة النووية لما يتطلبه بناء مفاعلات نووية من وقت ودراسة وتمويل». لم تكد فرنسا وبقية الدول الغربية معها تستفيق من الصدمة النفطية الأولى في خضم حرب أكتوبر 1973 بين العرب وإسرائيل، حتى جاءت الصدمة النفطية الثانية في عام 1979. ففي تلك السنة عاد الخميني من منفاه في فرنسا واستغل تلك الاحتجاجات الشعبية التي عمت بلاده والتي أطاحت بنظام الشاه الموالي للغرب، ليتمكن من الوصول إلى السلطة ويبدأ بالتالي في بناء دولة ثيوقراطية. أدت تلك الأحداث والتطورات التي شهدتها إيران في منطقة الشرق الأوسط إلى حدوث صدمة نفطية جديدة هزت الاقتصاد العالمي. فقد تضاعفت أسعار النفط في الأسواق العالمية أكثر من ثلاث مرات مقارنة بمعدل الأسعار المعمول به في سنة 1973. تسببت تلك الصدمة النفطية الثانية في تكبيد فرنسا خسائر فادحة على صعيد ميزانها التجاري، ذلك أن سلطات باريس كانت في تلك الحقبة تستورد ثلاثة أرباع حاجياتها من الطاقة. بعد مرور بضعة أشهر على تلك التطورات تراجعت حدة الأزمة، وتم رفع الحظر في شهر مارس من سنة 1974 بعد مفاوضات أجريت في مؤتمر قمة النفط في العاصمة الأمريكية واشنطن، غير أن الآثار المترتبة على أزمة الطاقة استمرت حتى فترة السبعينيات، كما واصلت أسعار الطاقة نسقها التصاعدي، وقد تزامن ذلك مع تراجع الموقف التنافسي للدولار في الأسواق العالمية.قال الرئيس الفرنسي في تلك الحقبة فاليري جيسكار ديستان مخاطبا الفرنسيين في شهر ديسمبر 1979: «ستتحمل فرنسا فاتورة باهظة أثقل من تلك التي دفعتها ما بين سنتي 1973 و1974، لكن فرنسا اليوم تختلف عما كانت عليه سنة 1973». كانت الصدمة النفطية الثانية التي حدثت سنة 1979 أعنف مما كانت تتوقعه فرنسا وبقية الدول الغربية التي كانت تعتمد على وارداتها المتزايدة من النفط من أجل تلبية احتياجات اقتصاداتها المتنامية. في سنة 1973، ارتفعت أسعار النفط الخام في الأسواق العالمية بنسبة 37.3% للبرميل الواحد، كما ارتفعت أسعار الغاز الطبيعي المسال بدورها بنسبة 16.3% وقفزت أسعار السيارات بما لا يقل عن 15.7%. في شهر نوفمبر من سنة 1979، كان سعر اللتر الواحد من البنزين في حدود 3.08 فرنك فرنسي، أي ما يعادل 1.52 يورو في أحياء المنطقة الباريسية. أدت سياسات اقتصاد الطاقة التي كانت ترمي إلى خفض الواردات النفطية الباهظة الثمن إلى الإضرار بالأنشطة الاقتصادية التي تراجعت مؤشراتها وانهيار الصادرات الفرنسية والغربية لأن أسعار النفط الباهظة كانت تنعكس سلبا على كلفة إنتاج السلع والبضائع بمختلف أنواعها.تراوحت الإجراءات التي اتخذتها الحكومات المتعاقبة ما بين مكافحة معضلة تفاقم معدلات البطالة من ناحية ومعالجة أزمة التضخم المتفاقمة، والتي ارتفعت معدلاتها في فرنسا أكثر من أي دولة أخرى في العالم. اعتبر العديد من الخبراء أن تلك الصدمة النفطية التي حدثت في بداية السبعينيات قد مثلت العامل الرئيسي الذي أفضى إلى تغيير البنى التي كان يقوم عليها ما يسمونه «العالم النفطي» الذي نشأ في فترة الستينيات من القرن العشرين الماضي.كانت الستينيات بامتياز فترة تصفية الاستعمار الأوروبي ونشأة كبرى الشركات النفطية الوطنية المملوكة للدول الحديثة العهد بالاستقلال والسيادة وخاصة في منطقة الشرق الأوسط والشمال الإفريقي. اعتبر بعض الخبراء أيضا أن دول منظمة أوبك قد نجحت فعلا في تحقيق انتصار تكتيكي سنة 1973 حيث إنها استطاعت على وجه الخصوص أن تلوي ذراع القوى العظمى غير أن دول أوبك قد خلقت -على المدى البعيد- عناصر وعوامل هزيمتها الاستراتيجية. لوفيجارو

مشاركة :