فنـون مـا بعـد الحـداثــة وإشـكاليـات التـلقـي

  • 10/4/2020
  • 00:00
  • 2
  • 0
  • 0
news-picture

الشارقة: أوميد عبدالكريم إبراهيم من المعلوم أن الفنون بمختلف أشكالها؛ من بينها الفن التشكيلي؛ مرّت منذ القِدم بمنعطفات تاريخية وحضارات تباينت في طريقة تناولها والتعاطي معها، وأضفت كلّ حضارة سماتها وبصمتها الخاصة؛ وصولاً إلى مرحلة «الفن الحديث» الذي استمر حتى ستينات القرن العشرين، ومن ثم مرحلة الفن المعاصر؛ أو «فن ما بعد الحداثة» التي جاءت بالتوازي مع الثورات العلمية والرقمية الهائلة؛ الأمر الذي وضع الفنانين أمام تحدٍ جديد، وهو مدى إمكانية فهم المتلقي العادي لهذا النوع من الفنون التي يتداخل فيها الرسم، والفيديو، والصور الفوتوغرافية. يسلط عدد من الفنانين الإماراتيين في هذا الاستطلاع الضوء على هذه الجزئية بالتأكيد على أن تطور الفن التشكيلي جاء بالتوازي والتناغم مع مختلف أشكال التطور الأخرى التي تفرض على الجميع امتلاك أدوات التعامل مع العالم الرقمي الجديد؛ بغض النظر عن مجال العمل؛ لأن ذلك من شأنه ردم الهوة بين المتلقي من جهة، والعمل الفني من جهة أخرى؛ فضلاً عن أهمية زيادة وتيرة احتكاك المتلقي بعالم الفن، وتوسيع رقعة معرفته الفنية والارتقاء بذائقته. تنوع الثقافة يؤكد الفنان التشكيلي د. محمد يوسف، أن الفنون بدأت تقترب من مفاهيم الناس البسطاء، خاصة أن الأسرة الإماراتية بدأت تتطور بحكم ثقافتها الجديدة؛ كما أنها تجوب العالم سفراً، وتزور المتاحف والمعارض، وإن كانت هناك أولويات في ما يتعلق بتنوع ثقافاتها؛ إلى جانب متابعتها للأنشطة المتنوعة، وقد أسهمت الجامعات والكليات في فك العديد من الرموز والمفاهيم التي أستخدمها شخصياً في أعمالي، وهي قريبة جداً من مستوى وعي البسطاء في تفهم لغة الفن، من خلال الاعتماد على خاماتي المتعارف عليها، كالحبال والأخشاب والأشجار؛ خاصة النخيل بأجزائه المعروفة من الخوص، والكرب، والجذوع وغيرها، وبالتالي لا توجد صعوبة تذكر في استيعابها؛ أما الصور الفوتوغرافية، فهي مباشرة وواضحة الملامح. وعلى الرغم من كلِّ ما سبق؛ إلا أن علينا الاعتراف بأن فنون الحداثة وما بعد الحداثة تقترب أكثر من الأكاديمية، ولها جمهورها النخبوي، وعادة ما تظهر في «البيناليات» والمعارض المتخصصة؛ كما أن لها لغة مشتركة يفهمها المتابع، ولا ننسى أن العالم يتحرك بسرعة ونستقبل أفكار الحداثة في حياتنا يومياً، ولا تقف المسألة عند فهم الفنان وتجاوب الجمهور؛ لأن هذا جزء من المنظومة الفنية، فالفن عالم محسوس وملموس، والحداثة جزء مهم في الرؤية البصرية؛ كما أن الاطلاع وتوفر البيئة التحتية واكتمالها، وكذلك التنافس بين مدن البلد الواحد في بناء المتاحف وأروقة التشكيل؛ لَهوَ إيمان كامل بأهمية توافق الفنون بأشكالها، ومن يتذوق الشعر وحداثته؛ يتذوق التشكيل وأوانيه وأشكاله. إن ارتقاء حركة النقد وانتشارها في الصحف، وانتشار صفحات ومواقع التواصل الاجتماعي؛ كلُّ ذلك قرّب العديد من المسافات في هذا السياق، فعالم التشكيل يتحرك خارج إطار اللوحة المسندية، ولم يعد هناك ملتزمٌ بالأطر المعروفة؛ كما أنه خرج من جدران المتاحف إلى أماكن أكبر وأرحب يصطدم به المشاهد أينما كان، وختاماً لا بد من الإشارة إلى أن العمل الفني خرج من سيطرة الأدوات والألوان إلى عالم أرحب، وتغيرت النظرة إليه كعمل مستقبلي يعتمد على المواد الصناعية المختلفة في ظل تطور الآلات الحديثة. مواكبة التطور تشير الفنانة التشكيلية نجاة مكي إلى أن العولمة تفرض على الجميع التعامل مع كل أشكال وأنواع التكنولوجيا بغض النظر عن مجال العمل، وبالنسبة للفن التشكيلي، فقد تطور بالتوازي مع كل أشكال التطور الأخرى، فالثقافة وأحداثها مثلاً تتغير حول العالم باستمرار، فهناك ثقافة دائمة مثل ثقافة البلد، وهناك فنون تتغير من دون توقف؛ كأن يُقدّم عالمٌ ما ابتكاراً جديداً يضاف إلى المدارس لكي يستفيد منه الطلاب، وهكذا، والأمر ذاته ينطبق على الفن، وعليه فإن من الضروري متابعة التطورات من حولنا حتى ولو لم يكن في مجال تخصصاتنا، فالفن لم يعد يقتصر على التراث فقط، بل هناك فضاء واسع ورؤية بصرية في كل مكان، فقد أصبح بإمكان المرء أن يرى العالم كله من خلال شاشة هاتفه النقال. وقد يطرح أحد الفنانين رؤية محددة، ولكنني سأفهمها من رؤيتي أنا، وعليه فإن الفنان ليس مجبراً على وضع فكرة مبسطة لكي يفهمها الكل، فهناك شرائح لا علاقة لها بنوع معين من الفنون، ومن الصعب أن يصل أحد إلى فكرة الفنان؛ إلا الفنان نفسه، ونحن بدورنا مطالبون بإظهار ماهية تقبلنا للعمل، وانطباعنا عنه وتقييمنا له، فأهمية الرؤية البصرية والجمالية لا يختلف عليها اثنان، وحتى الشيء غير الجميل يمكن أن تختلف رؤية شخص ما حوله عن رؤية شخص آخر؛ إذ يمكن أن يجمع الفنان قطعاً غير مستساغة ومُنفرة، ولكنه قد يقصد من وراء ذلك العمل فكرة مرموقة وسامية، ويعالج قضية محددة قد تكون سياسية، أو ثقافية، أو مجتمعية، تثير فضول الناس، وحتى عند رسم البحر بجماله وبهاء منظره، فإن من الممكن أن تعطي كل موجة إيقاعاً مختلفاً ومتبايناً، وعليه فإن الرؤى واتجاه العمل نفسه متغيرة وتختلف باختلاف الموروث الثقافي للمتلقي نفسه، وأيضاً باختلاف مجال عمله وتخصصه، ومستوى ثقافته. ذائقة المتلقي يرى الفنان التشكيلي خليل عبد الواحد أن التوجهات الفنية مسألة ذوقية، وأذواق الأفراد تختلف باختلاف مشاربهم ومستوياتهم التعليمية وغيرها، وهذه العوامل تلعب دوراً في تشكيل ذائقة المتلقي الذي يتوجب عليه أن يغوص في عالم الفن أكثر لإثراء ثقافته الفنية، وحتى الفنان نفسه إذا أراد الارتقاء بإحساسه وفنه، فإن عليه أن يزيد من معارفه التي كلما زادت؛ كلما انعكست على مستوى فنه، وفتحت له أبواباً جديدة في مجال عمله الفني، ومن زاوية جديدة، وعليه فإن المعارف تلعب دوراً رئيسياً في مسألة فهم المتلقي للفنون فائقة الحداثة، كما أن زيادة وتيرة الأنشطة الفنية لها دور في هذا السياق أيضاً، فكلما احتك المتلقي بعالم الفن التشكيلي؛ كلما اتسعت رقعة معرفته الفنية، وارتقت ذائقته أيضاً، وبالتالي يصبح لديه كمٌّ كبير من المعلومات تساعده على فهم الأعمال الفنية من منظور أعمق، وليس مجرد النظر إلى العمل الفني في إطاره العام؛ بل بموضوعية وتعمق، فالفن بحر شاسع يحتاج إلى الغوص فيه لاكتشاف أعماقه ومكنوناته. ويمكن للفنان أيضاً إيصال المعلومة إلى المتلقي وتسهيلها من خلال الحديث عن أعماله وشرحها، وهذه الجزئية في غاية الأهمية؛ كما يمكن أن يلعب الفنان دوراً في هذا السياق من خلال تحديد الجمهور المستهدف، لأن هناك شرائح من الصعب جداً إيصال أفكار صعبة نسبياً إليها؛ سواء في الفن التشكيلي أو في أي فن آخر، فلكل عمل فني مستوى معين يناسب شريحة معينة، وهنا لا بدّ من الإشارة إلى مسألة أخرى، وهي معرفة احتياجات الجمهور ومحاكاتها من خلال العمل الفني الذي سيكون أقرب إلى المتلقي في هذه الحالة، فلكل شريحة توجهات واحتياجات ومستوى معرفي مختلف ومتباين.

مشاركة :