لم تكن المسميات أو الصفات التي اتسمت بها بعض المدارس الفنية والأدبية محض صُدفة، فقد كانت في أغلب الأحيان تتسم بالإشارة إلى مضمون تلك التوجهات، باختلاف أشكالها ومعانيها، وأود هنا أن أطرح مفهومي عن مصطلح «فنون ما بعد الحداثة» الذي أخذه بعض الفنانين كمطية ليبرروا أعمالهم وككيان مستقل عن النسق الزمني الذي مر به العمل التشكيلي من مراحله الأولى وإلى وقتنا الحاضر. وحين نعود بالتاريخ إلى فنون ما بعد الحداثة، نجدها ظهرت في خمسينيات القرن الماضي، وثمة من يعيد وصف ما بعد الحداثة إلى المؤرخ البريطاني آرنولد توينبي 1954م، وهناك من يربطها بالشاعر والناقد الأمريكي تشارلز أولسون في خمسينيات القرن الماضي. وبغض النظر عمّن وصفها بهذا المسمى، فالسواد الأعظم من النقاد يرون أنها أحدثت ثورة وتمرداً على الفنون الحديثة، من الانطباعية والتكعيبية والسريالية وغيرها، فهي بحد زعمهم أنها ولادة لفنون جديدة سحقت ما قبلها من فنون الحديثة، في حين نعتها البعض أنها من المستهلكات الفنية، الذي امتطاها المتسلقون على الفن، فوجدوا بها الملاذ الخصب لإخفاء انبعاجاتهم الفنية. ولا أرى أنها احدثت ثورة فعلية بعالم الفن، بقدر اختزالها للفكرة والمضمون وتناسيها الشكل الجمالي، ولو طبقنا معاييرنا النقدية من الجانبين الفكري والفني، لوجدنا أن فن الأساطير بالحضارات القديمة تنطبق عليها معايير الفنون الحديثة وخصوصاً الرمزية منها والسريالية، فلم يكن مصطلح الفنون الحديثة وليد القرن التاسع عشر، بل كان منذ آلاف السنين، ومن هنا نعي أن تعدد المصطلحات دون أُسُس نرتكز عليها، تنتج إشكالية لدى البعض فيتمسكوا بالمصطلح كملاذ للهروب أمام تساؤلات الناقد. وحين نتأمل بعض تكوينات ورموز أعمال ما بعد الحداثة، سوف نجد الفنان يستعين إما بالحرف العربي او الغربي وبعض الزخرفة الاسلامية، او برمزية الفلكلور الشعبي إما برسومات السدو او الهندسة المعمارية، فهي حاضرة إلى حد الهيمنة على بعض معالم فنون ما بعد الحداثة، وإن دلت مثل تلك الاستعانة فانها تدل على أن فنون ما بعد الحداثة في بعض اعمالها هي امتداد طبيعي لفن الكولاج ولم تتمرد على المحيط البيئي والواقعي للمكان، ولم تقفز على العامل الزمني بل كانت وما زالت تحيا بين رمزية الماضي ومعالم الحاضر، ولا أرى أن ثمة ثورة واستقلالية إلا بصرحة الفكرة، التي لا تحتمل التأويل كون فنون ما بعد الحداثة اعتمدت على الفكرة والمضمون وهمشت معايير الشكل الجمالي. الشاهد هنا: إن الفنون التشكيلية باختلاف مسمياتها ومراحلها، فهي تراكم فني وفق النسق الزمني وكل مرحلة هي تحديث update لما قبلها من الفنون ليس إلا.
مشاركة :