على العكس من فلسفات الحداثة ونظريتها الثقافية حيث يحتل المبدع دوراً مركزياً في العملية الفكرية والإبداعية، فإن النظرية الثقافية لـ «ما بعد الحداثة» والنافية لمطلقات الحداثة، وعلى رأسها مركزية الذات الفردية، إنما تنفي أولوية «المبدع» ودوره في التشريع الجمالي والأخلاقي للمجتمع، لحساب أولوية «المتلقي» اذ يموت المؤلف أو يذبل ويعيش القارئ أو يزدهر. وعلى الصعيد الفني نزعت هذه النظرية إلى تهميش دور الفنان الحداثي لمصلحة دور الجمهور، إذ امتدت مقولة رولان بارت عن «موت المؤلف» بسهولة إلى موت الفنان مؤلف «الطقس الفني»، ومقولة «حياة القارئ» إلى «حياة المستمع» متلقي «الطقس الفني» الذي اكتسب حرية أكبر في تذوقه. وهنا نشأ طقس فني جديد، أخذ ينمو منذ ستينات القرن العشرين، في إطار تصاعد حركات التمرد وثورات الشباب متباينة المشارب والنزعات التي عمَّت العالم آنذاك، يتجاوب مع ظواهر أخرى أدبية وعلمية، وتكنولوجية، اعتبرت جميعها الإرهاص العملي والسلوكي لما تمت صياغته بعد ذلك نظرياً وفلسفياً من منهجيات وتيارات ما بعد حداثية، بخاصة ذلك التيار الذي ينادي بـ «فلسفة الحياة اليومية» فتصبح لغة الحياة اليومية وسلوكياتها هي مركز العملية الفكرية، وتصبح نقطة المهمة العملية الفنية اقتراباً من الحركة الدائبة للواقع، وتجاوباً مع اللغة اليومية للشارع، وابتعاداً عن الأنظمة الفلسفية الكبرى، والسرديات/ الأبنية الفكرية والتاريخية الحاكمة لمناهج المعرفة ومعايير التذوق الجمالي والأخلاقي الحداثي. وتجاوباً من الثقافة العربية مع هذه الروح ما بعد الحداثية وبعد نحو عقدين تقريباً بدأ طقس فني جديد يحتل ساحة الغناء في القاهرة وبيروت بالذات وينتشر من كلتيهما إلى معظم البلدان العربية بديلاً للطقس الفني المتسامي لدى رواد حداثتنا الفنية، تمت تسميته في طوره الأول بـ «الأغنية الشبابية»، وهي تسمية خاطئة لأنها تستمد منطقها من معيار جيلي لا فني يقع خارج العملية الإبداعية، وربما كان الأوفق تسميتها بالأغنية الصاخبة التي شهدت ركض المطرب على خشبة المسرح ورقص الجمهور في قاعاته وبين مقاعده. وفي طوره الثاني بـ «أغنية الفيديو كليب» والتي يمكن تسميتها أيضاً بـ «الأغنية الراقصة» التي جعلت من الحركة الإيقاعية، بل والرقص الشرقي، مع الإخراج السينمائي جزءاً مركزياً من الأغنية يصعب تذوقها من دونه. ثم كان التحول الثالث نحو «الأغنية العارية» التي تقوم على دمج واضح بين الفن الحداثي وفن أماكن اللهو، وتستدعي عالم ومثل الكباريه الراقص في لوحات تعبيرية راقصة تشاهَد ولا تُسمع. وما بين هذه الأطوار الثلاثة، تم تقويض «المسرح التقليدي» باعتباره الأساس المكاني للفن الحداثي، والذي كان المطرب «الفنان» قد اعتبره المنبر الأساسي لإعلان رسالته الفنية. ثم تقويض المكونات الفكرية والجمالية لهذه الرسالة نفسها أمام زحف لغة الشارع التي فرضت نفسها حتى على مسميات أغنياته التي تختلف اختلافاً واسعاً بين مصادر إنتاجها، أو قنوات ترويجها، ولكنها تتفق في ملمحين أساسيين يؤسسان لنمط جديد من النشوة الفنية لا يعتمد معيار الصدق الفني الحداثي القائم على إبداع قيم عقلية ووجدانية وجمالية، ولكن معيار آخر هو التشظي الفني ما بعد الحداثي. الملمح الأول: ذبول قيمة المطرب ودوره الذي يتراجع من موقع «المبدع» النهائي للرسالة الفنية، إلى موقع «المنظم» للطقس الفني، والذي لا فضل له إلا الإعلان، بصعوده إلى خشبة المسرح، عن جاهزية المكان، حيث يبدأ الطقس وينهمك الجمهور في دوره الراقص، متجاوباً مع حضور المنظم وصانعاً لنشوته الفنية الخاصة من دون انتظار لتلقيها. يلي ذلك قيام «المطرب المنظم» بتلقي التهنئة على دوره المحدود بصرف النظر عن جمال اللحن، أو صدق الكلمات، أو طبيعة الصوت، حيث صار المعيار تنظيمياً لا فنياً. والملمح الثاني: بروز دور الجمهور كمشارك أساسي في الطقس الفني، تتحقق نشوته بنجاحه في إنزال المطرب المنظم من موقعه المتعالي «كفنان حامل للقيمة»، إلى موقع «الشريك العادي» في طقس أشبه بحفلات الزار الجماعي التي يستطيع فيها كل فرد التعبير بحرية ملموسة عن هواجسه وآلامه الإنسانية، أو أشواقه العاطفية المحرومة، أو حتى عن خواء روحي يشعر به لدوافع ثقافية أو سياسية، ولكنه لا يرغب في أن يتحاور حولها موضوعياً، إما ليأسه من إمكان حلها، وإما للتعبير عن احتجاجه على السلطة السياسية والأخلاقية المولدة لها. ولذا فليس غريباً أن يكون الشباب في سن المراهقة أو أكبر قليلاً، هو العمود الفقري لجمهور هذا الطقس الفني حيث المرحلة العمرية، والظرف السياسي جميعها عوامل تحرك لديه ملكة التمرد على كل سلطة أخلاقية أو فكرية، بل وعلى الحضور الموضوعي للعقل ذاته. آفاق
مشاركة :