في واقع عربي يعج بكل هذا الدخان والغبار ، حيث ما نشاهده ونسمعه على مدار اللحظة من مختلف وسائل الإعلام لا يسر صديقاً وإن كان يسعد الأعداء ، فإن هناك وميضاً ينبثق من الرماد هو الوجه الآخر المضاد لما نحن عليه ، حيث ينشر بين وقت وآخر من الأنباء غير السياسية والعسكرية ، عن أفراد تفوقوا في مجالاتهم ، واستطاعوا أن يحققوا أهدافهم رغماً عن الواقع وليس بفضله. من هؤلاء علماء وأطباء ورجال قانون ومهندسون في مختلف عواصم العالم ، وهم يحملون أسماء عربية لا لبس فيها لأنها منحوتة من هذه الأبجدية التي أصبح الكثير من أبنائها يرطنون بها وكأنها ليست لغة تراثهم ودينهم وكل ما ورثوه من الفنون والفلسفات والآداب! في مصر مثلاً يقف مهندس أمام عدد غفير من زملائه ليشرح لهم ما أنجزه من أنفاق في برلين وغيرها من مدن أوروبا ، ثم يأتي طبيب يشهد العالم بكفاءته وحصل من ملكة بريطانيا على لقب سير كي يعالج المرضى من الفقراء في مسقط رأسه في الصعيد. وفي لبنان يعلن طبيب عيون أنه استطاع أن يعيد البصر إلى رجل عانى العمى أكثر من ثلاثين عاماً ، وهناك أمثلة عديدة أخرى ، هؤلاء قرروا أن يكدحوا في مختبراتهم ويعكفوا على أبحاثهم غير عابئين بكل هذا الصخب وهذه الفوضى ، حيث تمر الأيام رتيبة ومتشابهة وبلا أية إضافات أو معنى. إن أسوأ ما أوقعنا فيه السيناريست الماكر الذي خلط حابل كل شيء بنابل كل شيء في الوطن العربي ، هو هذا الشلل الذي يراوح بين الجزئي والكلي في المؤسسات والمهن ومجمل الأنشطة الإنسانية ، بحيث أصبح الناس في حالة انتظار كما لو أنهم يشاهدون بشكل جماعي مسرحية بيكت بانتظار غودو ، وإذا كان غودو لا يأتي في المسرحية فإن الغد بالنسبة لنا أصبح أشبه بورقة يانصيب ، تولى توقع أحداثه عرافون وقراء طوالع بدلاً من مراكز الأبحاث التي تعنى بعلم المستقبليات لأن المستقبل له جذور في الحاضر وهو كما يعرّفه العلماء المتخصصون به حاصل جمع الممكنات ، ولن تنجب القردة حمامة أو غزالاً! إننا بحاجة ماسة إلى أمثال هؤلاء لأنهم الوميض في الرماد ، والنقطة البيضاء في سواد الأفق ، فهم يحوّلون العقبات إلى رافعات والضارة إلى نافعة.
مشاركة :