النقد الحقيقي قيمة تكميلية تقويمية لأي مشروع أو نص أو فئة وليس خارجاً عنها إلا في النوايا، النقد يأخذ دور المراجعة والتصحيح لأي معطى مستهدف، فمن خلال النقد تأخذ الأشياء حجمها وقيمتها الطبيعية كما يسهم في استعادة المنقوص وإعادة تأهيله وتوجيهه ناحية الصواب والكمال، فليس ممكناً الإ في الأذهان أن يخرج أي منتج بشري بصيغة كمالية نهائية، النقد قيمة خلاقة وطهرانية إلا في البيئات التقليدية الامتثالية خصوصاً البيئات ذات المرجعية الدينية بسبب اليقينية والشعور بامتلاك كامل الحقيقة المتعالية على النقد بوصف الحقيقة معطى مقدساً وربانياً لا يحتمل رأي البشر، إضافة إلى الحصون المنيعة التي لا يمكن تخطيها والمتمثلة «برجال الدين» الذين لا يحتملون مزاحمتهم في توزيع الدين والهيمنة على المجتمع، لأن ذلك سيفقدهم الامتيازات الاجتماعية (المال، السلطة، الوجاهة). لست هنا بسبيل الحديث عن فقه النقد وإنما أدرجته كمقدمة لنقد مدرسة دينية حديثة تستل الوعي الاجتماعي (السرورية)، خصوصاً أن الرأي العام أخيراً بدأ يجترح تابو نقد المقدس وعلى رأس ذلك نقد المدارس الدينية، وكان محرض ذلك تقاذف المدارس الدينية كرة النار (النسب الداعشي)، إذ لم يكتف الأضداد بدعوى انتسابه الخوارجي بل تجاوزوا إلى التصريح بالمشيمة التي تولد منها «داعش»، صرح بعضهم (السروريون) وغيرهم بأن «داعش» نبتة سلفية وتجاوزت الصراحة الوقوف عند نسبتها للسلفية إلى مرحلة إعادتها إلى المدرسة العتيقة والمقدسة سياسياً واجتماعياً قرابة ثلاثة قرون وهي المدرسة الوهابية، وذلك يعد نهاية حقبة المعصومية والجلالة لهذه المدرسة التي ظلت عصية على النقد الجهاري. السرورية ليست أعز على المخيال الديني والاجتماعي من الوهابية، لكنني أجد أن نقد السرورية راهناً صار أكثر معرة من نقد السلفية أو الوهابية بسبب سطوتها وتغورها في كل أركان الحياة الاجتماعية والدينية والرسمية حتى تحولت السرورية كدولة عميقة داخل عموم المؤسسات الرسمية وغير الرسمية، بل أضحت تتحكم في أرزاق وسمعة مخالفيها مماهية بذلك الذهنية الميليشياوية، في مقالتي السابقة: «استعادة المؤسسة العميقة... الهيئة»، أردت النمذجة بجهاز الهيئة على مدى تغول السرورية على الأجهزة والمؤسسات والأنشطة الدينية والاجتماعية، ما يعني أن هذه المدرسة الطارئة اجتالت الخطاب والهيمنة الدينية على حساب الوهابية وتحولت الموزع والمحتكر للحراك والوعي الديني بما في ذلك توظيف الترسانة الوهابية والسلفية، ولأننا راهناً في خضم سجالات فكرية حول من صنع وحش «داعش»، فإنني لا أنكر الأثر السلفي في لغونة «داعش»، وأخواته لكن ذلك لا يعفي الفكر السروري من «داعش» وسيامياته الراديكالية، ذلك أن السرورية امتداد للإخوانية الحركية، لكنها إخوانية معدلة محلياً، إذ هي سياسياً وحركياً وسلالياً إخوانية بنائية كما هي تنتهج القطبية في راديكاليتها وحاكميتها الجذرية لكنها بيئت نفسها محلياً بملاءة الوهابية السلفية براجماتياً، ومن هنا كان التأزم المتطاول، إذ دأبت السرورية على تبني الفكر والعقيدة السلفية كرأس حربة وحصان طروادة في التعبئة والتحشيد الجهادي الذي يجد قبوله محلياً وإقليمياً، وبرهان ذلك موقف التيار السروري الداعم للتيارات الجهادية في العراق وسورية ومناطق أخرى التي تنتمي للقاعدة، بما في ذلك الفصيل الذي قلب ظهر المجن على القاعدة «داعش»، وإن شجبه بعضهم فما هو إلا لمحاولة «داعش» العقوق والاستقلال عن تنظيم القاعدة، وعلى رغم شجب بعضهم لـ«داعش» إلا أن الصامتين عن التنديد فيه هم السواد والعلية (حادثة شرورة نموذج حاد على مدى تماهيهم مع الإرهاب)، أنا لست مدافعاً عن الوهابية ضد اتهامها في صناعة الراديكاليات الجهادية لأجل اتهام غيرها لكن الواقع يؤكد أن من يمتلك الصوت الأعلى والأوحد في مجتمعنا ثقافياً ودينياً هم السروريون الذين تقاطعوا مع التدين المحلي التقليدي (الوهابية) عقائدياً وفقهياً، وذلك في الثمانينات الميلادية والذي انتهى بتغلغل وتغول السرورية في عامة مفاصل الحياة الدينية والاجتماعية لتتحول بعدها الوهابية والسلفية ضمن محازتهم الحركية، الجماعات الإرهابية «القاعدة» و«داعش» وغيرها ما هي إلا منتجات سرورية استخدمت الوهابية والسلفية دعاية غوبلزية لصبغ المشروعية على أجندتها الحركية والإرهابية ليكون لها المغنم وعلى الوهابية والسلفية المغرم، وهم اليوم يمارسون التضليل المنهجي من خلال التمويه على الوعي بأن راعي الجماعات الإرهابية وممولها آيديولوجياً هو الوهابية والسلفية لصرف رماح النقد عن آيديولوجيتهم (السرورية الإخوانية القطبية)، لا يعني ذلك براءة إضبارات السلفية العقائدية والراديكاية العتيقة، لكن الواقع يحكي أن الوهابية المعاصرة قد خمد أوارها وتراجعت غلوائها الجذرية إلا من بقايا أرشيفية عقائدية باتت تعلوها طبقات النسيان والإهمال لمرحلة كادت أن تكون فيها الوهابية أثراً بعد عين لولا أن المستثمر السروري يعيد منتجتها وتحيينها حتى يصنع منها مسوحاً يتدثرها ليأخذ منها القبول والمشروعية محلياً وخارجياً، «الحصاد» لم أكن أرغب في التأشير على فئة وتيار وتحميله مسؤولية دينية وأخلاقية، لكن الراهن لا يحتمل غير الوضوح والإشارة الصريحة تجاه المسؤولين عن تفكيك البنية الوطنية والسلم الأهلي ومقدس الأمن والاستقرار، السرورية لو لم تستخدم الرأسمال الديني لكان الحوار معها ممكناً لكنها تتأبى غير التدرع بالدين والمقدس تجاه مخالفيها بوصفهم خصوماً للاهوت لا الإنسان، منذ أن بزغ نجم التيار السروري والحس الوطني يتهدم باسم الله والدين (ولغونتهم مع اليوم الوطني المقبل شهيد على ذلك)، وليس ذلك تديناً من السرورية وإنما هو وهم رغبوية يوتوبيا الخلافة والأمة التي استوردوها من ملاليهم في «منظمة الإخوان اللاهوتية»، جيلان من مجتمعنا لا يستوعبان الدين إلا من خلال الترجمة السرورية المحرفة للدين، ما هيأ المجتمع لتقبل الفكر الراديكالي، وكما كتبت في بداية هذه المقالة ليست السرورية بأعز وأكثر جلالة وهيبة من الوهابية اجتماعياً وسياسياً، ومع ذلك انتقدت الوهابية كثيراً وأقول ذلك حتى يدرك عقلاء السرورية أنني لم أختصهم بالنقد دون سواهم، كانت السرورية الباكرة في أوائل الثمانينات تياراً مهماً ومثرياً للوعي ومحرضاً على العلم والمعرفة ونشر القيم والأخلاق، لكنه تدنس حينما انخرط في خط السياسة، ولأي تيار ديني الحق في أن يطرح نفسه كتيار تجديدي أو سياسي أو اجتماعي لكن من دون أن يخل بالمشروطية الوطنية، وذلك ما لم تدركه السرورية التي تحول انتماءها لمنظمة خارجية على حساب الوطن أضف إلى دأب هذا التيار في تفكيك عشق وحس الوطن والمواطنة لمصلحة الدولة الأمة دولة الخلافة الإخوانية.
مشاركة :