ما زالت العنصرية ضد السود تؤرق المجتمعات وخاصة المجتمع الأميركي، الذي يعرف بين حين وآخر موجات احتجاج قوية ضد الممارسات العنصرية التي تنتهجها السلط أو المواطنون البيض. ومن هذه الأجواء اقتبس الروائي الفرنسي بوريس فيان روايته “على قبوركم”، التي تعالج قضية العنصرية والعنصرية المضادة من خلال حكاية شقيقين. يحاول الروائي الفرنسي بوريس فيان (باريس 1920 – 1959) التصدي لظاهرة العنصرية بطريقة خاصة في روايته “على قبوركم”، حيث رجل أبيض بجينات ودماء سوداء يتغلغل في مجتمع يرغب بإبقاء الزنوج في القفص، ويعمل على إدانة الممارسات العنصرية بأسلوب روائي محبوك. تبدأ الرواية، الصادرة عن منشورات مسكيلياني، بالحديث عن لقاء بين جان دل هاليون وفيرنون سوليفان سنة 1946 في واحد من الاجتماعات الفرنسية الأميركية، وبعدها أحضر له سوليفان مخطوطة روايته، وأخبره بأنه يرى نفسه رجلا أسود اللون أكثر من كونه أبيض على الرغم من تجاوزه ما يمكن أن يوصف بالخط الأحمر في تسميته للأمور بمسمياتها. يشير الراوي إلى أنه كغيره يعلم أن الآلاف من السود كانوا يختفون من سجلات الإحصاء كل عام، وينتقلون إلى المعسكر المقابل، وكان تفضيله للسود قد ألهم سوليفان نوعا من الاحتقار لأولئك الذين يوصفون بالسود الطيبين، والذين يربّت البيض على ظهورهم في المؤلفات الأدبية. وكان يرى أن بوسع المرء أن يتخيل سودا أشدّاء مثل البيض أو حتى يقابلهم، وهو ما حاول إبرازه في روايته القصيرة التي اشترى جان دل هالوين حقوق نشرها كاملة حين سمع عنها من أحد أصدقائه. يصف متن الرواية بأنه يجب أن يعرف بوصفه أحد مظاهر الرغبة في الانتقام الموجودة لدى عرق ما يزال معاقبا ومرعوبا، ثم بوصفه نوعا من التغريم في مواجهة هيمنة البيض الذين يزعمون تفوقهم المفترض ويتباهون به.. يتأسف أن أميركا التي تصف نفسها بأنها بلد الأحلام، هي أيضا البلد المفضل للتطهيريين ومدمني الكحول والأشخاص الذين تعودوا على التقوقع والحذر من الأفكار المناهضة لقناعاتهم، وبخاصة في قضية السود في تلك الحقبة التاريخية، ويلفت إلى أنهم وإن كانوا في فرنسا يسعون جاهدين إلى أن يكونوا خلاقين أكثر ممن يتواجدون على الجانب الآخر من المحيط الأطلسي، فذلك لأنهم لن يشعروا بالقلق عندما يستغلون بصفاقة وصفة أدبية أثبتت نجاعتها، ويعترف أن روايته ليست سوى طريقة جيدة من بين طرق أخرى، يسعى المرء من خلالها إلى بيع كتاباته. يصرح الراوي بسبب اختيار كليم لمدينة بوكتن، وأنه لم يكن أحد يعرفه فيها، لذا اختارها، بالإضافة إلى أنه حتى لو أراد أن يتراجع لم يبق لديه ما يكفي من الوقود كي يواصل التقدم أبعد ناحية الشمال، وكان يحمل رسالة من أخيه توم لكليم كي يساعده في الحصول على عمل هناك، وبالفعل يساعده للعمل في مكتبة. هناك رغبة في الانتقام لدى عرق ما يزال معاقبا ومرعوبا، بوصفه نوعا من التغريم في مواجهة هيمنة البيض يقول إنه يود أن يتفرغ للتأليف ويكتب روايات تاريخية، وروايات يتسنى للزنوج فيها أن يمارسوا ما يمنع عليهم في الواقع من دون أن يتعرضوا للسحل، وروايات عن الفتيات الصغيرات العفيفات اللاتي يتمكن من أن يكبرن دون أن يعبث بهن واحد من أبناء عالم الضواحي السفلي القذر. يخوض في مغامرات جنسية مع مجموعة صغيرة، تكون الإباحية سمة علاقاته، ويذكر أن المدينة كانت على وشك الامتلاء، وقد شرع في بيع الكتب المدرسية وبالتدريس في ساعات معينة في مكتبته، وراح أفراد مجموعته يرسلون إليه أصدقاءهم في المدرسة وما استرعى انتباهه أن الفتيات تحديدا كن سيئات.. يكون أخوه لي معلما في مدرسة مخصصة للسود، احتج علنا على واقعة معينة، وأرسل رسالة إلى السلطات حول الموضوع، وذلك بعد أن كان السود قد حصلوا على حق التصويت، ليقوم رجال عضو مجلس الشيوخ بالبو، بالاعتداء عليه، وهو ما دفعه بالنهاية إلى مراسلة أخيه طالبا منه القدوم ليأخذه بالسيارة إلى مكان آخر. ويصور أنه عندما وصل وجد أخاه في انتظاره، جالسا على كرسي وحيدا داخل إحدى غرف المنزل المظلمة، وآلمه أن يرى ظهره العريض منحنيا، على ذلك النحو، وهو يضع رأسه بين يديه، وشعر بدماء الغضب السوداء؛ تلك الدماء السوداء الأصلية الصافية، تجري داخل عروقه وتغلي داخل أذنه، ويتألم لأنهم جلدوه، ويعترف بأنه يريد أن يحرق المنزل الذي بناه والدهما الذي يدينان له بكل شيء. يصرح كذلك بأنه صحيح أن بشرته تكاد تكون بيضاء، ولكنه تذكر أنه لم يفكر يوما في التنكر لعرقه، ومات شقيقهما ولا يجب أن يمتلك أحد المنزل الذي بناه والدهما بيديه الزنجيتين. يختلق الراوي الحكايات، يخبر صديقة عنصرية في داخلها أنه ولد في مكان ما من نواحي كاليفورنيا، وأن لأبيه أصولا سويدية، وهو ما يفسر لون شعره الأشقر، يحدثها عن طفولته القاسية بسبب الفقر المدقع لوالده، ما دفعه في سن التاسعة إلى العمل كعازف غيتار، كي يحصل لقمة عيشه، ليحالفه الحظ بعدها ويلتقي بشخص اهتم لأمره وحمله معه إلى أوروبا، وهناك قضى عشرة أعوام. يحكي أنه اختلق كل تلك القصص التي حدث صديقته بها، رغم أنه قضى حقا عشرة أعوام في أوروبا، ولكن في ظروف أخرى، وكل ما اكتسبه من معرفة يدين به إلى نفسه وإلى مكتبة الرجل الذي اشتغل عنده خادما. ولم يحدثها عن معاملة ذلك الرجل له، وهو الذي كان يعرف أنه زنجي، ولا عمّا يفعله به عندما يأتي أصدقاؤه لزيارته ولا حتى عن الطريقة التي غادره بها، بعد أن أرغمه على توقيع شيك لتمويل رحلة عودته. يحكي كذلك أنه اختلق الكثير من الأكاذيب حول أخيه توم، وحول الصبي، وظروف موته في حادث، قائلا إن الزنوج هم سبب موته، ووصفهم بأنهم خبيثون ولا يصلحون لشيء سوى العمل كخدم، لتجيبه عن أن فكرة الاقتراب من أولئك الملونين تجعلها مريضة.. يخبرها أيضا أنه عندما عاد إلى موطنه، اكتشف أن منزل العائلة قد بيع، وتوم رحل إلى نيويورك، وأن الصبي مات ودفن في عمق ستة أقدام تحت الأرض، وبسبب ذلك قرر أن يبحث عن عمل، وأضاف أنه مدين بوظيفته الحالية بصفته مدير مكتبة إلى أحد أصدقاء توم، وكانت تلك هي الحقيقة الوحيدة التي ذكرها لها. يصف كيف يتحول القاتل إلى قتيل، وبعد فتكه بإحدى الفتيات بطريقة وحشية، يعادي بلدة بأكملها، ويتعامل بطريقة فظيعة تعبر عن مقدار الغضب الذي يختزنه في داخله عليها، وعلى ممارسات عدد من سكانها ضد الزنوج، ليصبح بدوره ضحية أفعاله وممارساته، ويثبت بؤس مناهضة العنصرية بعنصرية مماثلة.. يرمز فيان إلى أن العنصرية المضادة ليست طريقة مجدية لمواجهة العنصرية المتفشية لدى فئات من الناس، وأن الأمر يحتاج لوعي ومسؤولية وتفهم وتدبر من أجل تفادي الإشكالات الواقعية والتاريخية التي يقع فيها الناس نتيجة الجهل بالآخرين، وجراء تهويل المخاطر المحتملة من قبلهم.
مشاركة :