برغم الأحداث التي لا تزال تعصف بالولايات المتحدة تنديدا بالجرائم العنصرية وبشتى رموز استعباد السود، بما في ذلك الأعمال الأدبية والسينمائية، أقدم ناشران فرنسيان هما غاليمار وغالميستر على طبع ترجمتين لرواية “ذهب مع الرّيح” للأميركية مارغريت ميتشل، دون اعتبار لمضمونها العنصري الذي أدانته عدة جمعيات أميركية منذ صدورها عام 1936. بعد مقتل جورج فلويد، ما يزال السّود في أميركا يعبرون عن نقمتهم ضدّ رموز الاستعباد، ودعاة تفوق العرق الأبيض، ومحرّفي التاريخ الأميركي بشأن تجارة الرقيق واستغلال السود في مزارع القطن بولايات الجنوب منذ مطلع القرن السابع عشر. وبعد تحطيم أكثر من تمثال، اتّجهت الأنظار إلى كل ما يمثل تمجيدا للاسترقاق وتبريرا للميز العنصري، وفي مقدّمتها رواية مارغريت ميتشل “ذهب مع الرّيح”، التي بيع منها حتى الآن ثلاثون مليون نسخة، وكذلك الشريط الذي استمدّه منها المخرج فيكتور فليمنغ وعهد بدور البطولة فيه لكلارك غيبل وفيفيان لي، ونال ثماني جوائز أوسكار. والسبب أن هذه الرواية تصور الاستعباد كمؤسسة سعيدة، وفردوس مفقود خال من القسوة والظلم، وأسرة كبرى لا تسوسها العبودية بل يوحّدها العطف والحنان، إضافة إلى احتوائها على مغالطات تاريخية حول الحرب الأهلية (1861 – 1865) ومرحلة إعادة البناء (1865 – 1877) التي عقبت هزيمة الكونفدراليين. جنة الجنوب الكاذبة لقد عُدّت رواية “ذهب مع الرّيح” منذ صدورها رمزا لتآلف عصابات “كو كلوكس كلان” العنصرية المتطرفة، والجماعات التي تحنّ إلى “العصر الذهبيّ” للجنوب، ألفتها مارغريت ميتشل كردّ فعل على التاريخ الرسميّ كما تزعم، تاريخ المنتصرين في الحرب الأهلية، رغم أنها تعترف أنها لم تعرف الحقيقة، أي هزيمة الجنرال روبرت لي والولايات الجنوبية الموالية له، إلا عندما بلغت سنّ العاشرة. و“ذهب مع الريح” تندرج ضمن كتابات حاولت أن تفنّد ما صوّرته هارييت بيشر ستو في رواية “كوخ العمّ توم” التي احتلت المشهد الروائيّ خلال القرن التاسع عشر. وميتشل لا تجهل عند تأليف روايتها، الوحيدة في رصيدها، أنها تنخرط في حرب ذاكرة مع رواية ستو التي استوحت عملها من مرويات هاربين سمعتها في ولاية أوهايو، ومن حضورها بيع عبيد في سوق النّخاسة. وكانت رواية ستو قد صدرت في حلقات في صحيفة مناهضة للاستعباد عقب صدور “قانون الرقيق الهارب” الذي أقره الكونغرس ذو الأغلبية الجنوبية في 18 سبتمبر 1850، ويقضي بإرغام الشّماليين على مساعدة الجنوبيين في القبض على العبيد الفارّين من مزارعهم، وتغريم كل من يرفض إيقاف المشتبه بهم. "ذهب مع الريح" عمل إشكالي، فهو رجعيّ في تناوله قضية السّود، وتقدمي في ما يخص انعتاق المرأة وكان من الطبيعي أن يعارض مناهضو الرقيق هذا القانون، ومن بينهم هارييت ستو، التي كان لروايتها أثر كبير في المشهد الثقافي والسياسي حتى قيل إنها هي التي أشعلت فتيل الحرب الأهلية، ونسب إلى أبراهام لنكولن قوله حين قابل الكاتبة “هذه السيّدة الصّغيرة إذن هي التي كانت سببا في حرب كبيرة”، رغم أن جيمس بالدوين انتقد سذاجتها، مثلما انتقد مالكوم إكس قبول بطلها الوضع السائد، وميل السود عموما إلى الخضوع، بدل مقاومة عصابات “كو كلوكس كلان” الإجرامية. ومارغريت ميتشل تتبنى بلا تحفظ أيديولوجيا “القضية المفقودة” التي يزعم دعاتها أن ولايات الجنوب قاتلت خلال الحرب الانفصالية لأجل استقلالها السياسي الذي كان يهدده اليانكي (الاسم الذي يطلق على أميركيي ولايات الشمال) لأنهم يحسدونهم على نمط حياتهم، وليس بهدف الحفاظ على منظومة الاستعباد. ومن ثمّ حملت روايتها بعدا أيديولوجيًّا يرى الجنوب جميلا متناسقا سعيدا قبل أن يهاجمه “همج” الشمال، وأن الاسترقاق الذي يلام عليه أهلها بتعلات إنسانية واهية لم يكن بالشكل الذي يدّعيه المناوئون، ولكنّها كشفت عن عنصريتها حين صوّرت السود كأفراد قاصرين خائفين أشبه بالحيوانات الأليفة أو الأطفال القُصّر الذين يحتاجون إلى من يحميهم، وليس ثمة في نظرها من حماهم أفضل من أسيادهم البيض. فهل نقرأ هذه الرواية اليوم بمعزل عن كل تلك المعطيات، أم نعتبرها وثيقة تاريخية تعكس مرحلة ما؟ وهل امّحت الأفكار التي حملتها أم لا تزال حاضرة في خطاب النوستالجيين وممارساتهم؟ الجدل حولها وحول الشريط الذي رافقها قائم في الأوساط الأميركية منذ اللحظة الأولى، ولكنه ازداد قوة في الأعوام الأخيرة. فقبل عشر سنوات، أدرجت ريشي ريتشاردسون، أستاذة الأدب بجامعة كورنيل في ولاية نيويورك هذه الرواية ضمن دروسها، للوقوف على الأيديولوجيات الجنوبية التي لا تزال حاضرة في الجناح المتطرف للحزب الجمهوري، وما زلنا نلمس حضورها حتى اليوم في خطاب الرئيس ترامب، فبعد فوز شريط “طفيليّ” لبونغ جون هو من كوريا الجنوبية، كتب تغريدة تعبر عن استيائه من تتويج شريط أجنبي قائلا “أعيدوا إلينا ذهب مع الريح”، وكانت رسالة واضحة لأنصار تفوق العرق الأبيض الذين يحنون إلى التفرقة العنصرية. كذلك شأن الناقد ويسلي مورّيس، إذ عدّها عملا دعائيّا يوهم بأن العبيد كانوا سعداء بعبوديتهم، ومثالا جليّا للحملة القومية التي نظمت في بداية القرن العشرين للسيطرة على صورة السود وتزوير حقيقة الواقع الأميركي. وفي اعتقاده أن الحرب اندلعت عام 1861 لعدة أسباب، ولكن إلغاء العبودية كان أهمّها، مهما ادّعى محرّفو التاريخ. ولا يستحسن أن يقرأ الكتاب فقط كأثر أدبيّ رائع، بل ينبغي اتخاذه وسيلة لفهم كيفية اشتغال هذه الميثولوجيا، التي لا تزال قائمة حتى اليوم لدى شرائح واسعة من الأميركيين. أما أندرو كرين، أستاذ الأدب بجامعة ألاباما، فقد رأى في الجدل القائم هوّةً بين جيلين، جيل الآباء ممن ولدوا بعد الحرب العالمية الثانية رأوا في الرواية ثم في الفيلم نشيدا للحب والحرية. وجيل الأبناء الذين يرون عكس ذلك، بل لا يفهمون كيف أحب آباؤهم كتابا ينضح عنصرية. وفي اعتقاده أننا يمكن أن نقرأ الكتاب ولكن بعين ناقدة، فالبطلة سكارلت أوهارا أيقونة شبيهة بدارك فادور أو ميكي ماوس، ولها ما لكوكا كولا من رمزية، فهي تنتمي إلى الثقافة الشعبية، وتصلح أن تكون وسيلة جيدة لتحليل النفسية الأميركية. بينما أكدت المؤرّخة الأميركية أنّا إيفريت قائلة “إن رغبة رواية ‘ذهب مع الرّيح’ في إظهار الإرث الأبيض مضلّلة، فهي توهم بأنّ الجنوب كسب الحرب، وتعكس تحريف الأرستقراطية الجنوبية للتاريخ الحقيقيّ للحرب الأهلية، أي الاسترقاق. نحن البلد الوحيد الذي يمجّد عدوّه. الكونفدراليّون كانوا خونة، وحاربوا الولايات المتحدة”. ورغم ذلك، لم يتردد الناشر أوليفيي غالميستر في اقتراح ترجمة جديدة لرواية “ذهب مع الريح” بوصفها أولا وآخرا عملا أدبيا ممتازا، وهو ما تبناه قبله عدّة أدباء من بينهم لوكليزيو، المتوج بنوبل عام 2008، ولم ينظر إليها إلا من الناحية الفنية والجمالية. والسبب أن “ذهب مع الريح” عمل إشكالي، فهو رجعيّ في تناوله قضية السّود، وتقدمي في ما يخص انعتاق المرأة من السلطة البطريركية، تبدو فيه المؤلفة سابقة للحركات النسائية الداعية إلى ضرورة اعتماد المرأة على نفسها، ولكنها تقدم البيزنس على الأخلاق، فسكارلت أوهارا تمثل، قبل دونالد ترامب بقرن ونصف، تفوُّق المال على الأخلاق، إذ لا تتورع عن الغش والكذب واستعمال مفاتنها لتحقيق مراميها. في رواية “جرائم في أطلنطا” يقدم جيمس بالدوين مفتاحا لفهم هذه الرواية، فيورد جملة نطقت بها سكارلت: “أنا عاجزة عن التفكير. لو أبدأ فسوف أجنّ. سأفكّر غدًا”، ويضيف أن ذلك هو ما طبع تفكير مارغريت ميتشل كلّه.
مشاركة :