كثير ما سمعنا المثل القديم " النصيحة كانت بجمل " ، أي أن الناس كانوا يبحثون عمن يسديهم النصح والحكمة في شؤون حياتهم ويطلبونها ممن جرب وعرف وخبر الحياة ، ولو كلفهم ذلك مبالغ طائلة. وأيضا سمعنا المقولة المعروفة " إسأل مجرب ولا تسأل طبيب" ، لأن الناس كانوا يقدرون من يتكلم عن تجربة حقيقية وممارسة فعلية خرج منها بنتائج وعبر.إذًا مالذي حدث لنا في هذا الوقت؟ .. أصبحت الناس تعزف عن إعطاء النصح ، ويتأففون من تقبل النصح بل ويديرون ظهورهم لمن ينصح. فلماذا أصبحنا نتضايق من تقبل النصح من الآخرين؟إن فكرت في تقديم نصيحة لشخص ما حول كيفية تحسين أدائه أو استغلال طاقاته الكامنة عبر توجيه ملاحظات أو بيان النقاط التي يلزمه التركيز عليها لتحسينها ، فعليك التفكير جيدًا قبل الإقدام على ذلك، فأغلب الناس لا يريدون سماع نصيحة من آخرين . وسبب ذلك يعود إلى " الاعتداد بالنفس" وأننا نرغب في تحقيق طموحاتنا الخاصة التي نرغبها لأنفسنا. ولهذا السبب عندما نرى أننا موضع مراقبة وتقييم من آخرين قد يغمرنا شعور بأن فخرنا الشخصي بأنفسنا قد أصبح موضع تهديد وأننا أقل شأنا ممن يقيموننا ونفقد بالتالي شعورنا القوي بأننا متميزون عن الباقين.أبحاث عديدة عبر عشرات السنين قام بها علماء النفس كشفت أننا بارعون جدا في التحايل لإظهار القوة والثبات في مواجهة ما يرمينا به الآخرون من نقد أو كلام سلبي حول تصرفاتنا أو طريقة عملنا أو أي شيئ آخر يخصنا. لذلك يكون رد فعلنا التلقائي هو الاعتراض على مايوجه لنا من نصيحة أو نقد ، وعلى الرغم من أن هذا التصرف يرفع ثقتنا بأنفسنا ، إلا أنه يظهر عيوبنا ويظهر كذلك قلة الإحساس بالأمان وتضطرنا لاتخاذ مواقف عدائية ضد الآخرين.الحقيقة أننا جميعا "نطرب" لسماع كلمات المديح وهذا قد يدفع بعضنا للطلب من الأشخاص الذين يقفون في صفهم إبداء رأيهم في الأمور التي هم واثقون أنهم مبدعون فيها ، ولكن يتناسون تماما الطلب لسماع نفس الشيء في الأمور التي يكون فيها أدائهم دون المستوى ويحتاجون الى العمل بجهد أكبر لتحسينها.على سبيل المثال ، بعض الناس يتفادون زيارة طبيب الأسرة حتى لا يسمعوا نصائح بأن عليهم الاهتمام بتخفيف الوزن أو ترك التدخين ، أو أي نصائح أخرى تتعلق بشخصهم أو جسدهم تسبب لهم إحساسا بعدم القبول وعدم الأمان النفسي فيما يتعلق بمظهرهم.بينت التجارب على أن الناس يريدون تجاهل سماع الشيء الذي لا يرضيهم . ففي إحدى التجارب النفسية ، عمد الأطباء إلى عرض فيلم مزيف عن مرض غير حقيقي وغير موجود أمام مجموعة من الطلاب الذين لا يعرفون أن المعلومات في الفيلم غير حقيقية. في نهاية الفيلم طلب الأطباء من الطلاب السماح لهم بجمع عينات من اللعاب لمعرفة إذا كانوا مصابين بهذا المرض "الوهمي" أم لا..في نفس الوقت ، قسم الأطباء الطلاب إلى مجموعتين ، وقالوا للمجموعة الأولى أنه إذا تبين أنهم مصابون بالمرض فهناك علاج يتمثل في تناول أقراص معينة لمدة أسبوعين .. ومن هذه المجموعة نصفهم وافق على إجراء الفحص ورفض الباقون.المجموعة الثانية قال لهم الأطباء نفس الكلام ولكن قالوا لهم أن المصابين سيتناولون الأقراص ليس لأسبوعين بل لبقية حياتهم .. والنتيجة كانت أن أقل من خمس المجموعة وافقوا على إجراء الفحص. والنتيجة المستخلصة أن الناس بشكل عام يتفادون معرفة نتائج الفحوصات أو الآراء الطبية التي قد تضطرهم إلى الالتزام بشيء يكرهونه أو يجدونه مرهقا.يتبين أن النصائح ، حتى الهادف منها، قد تظهر أبعادًا سيئة في شخصياتنا وسلوكنا ، ولكن كيف نستطيع السيطرة على ردود الأفعال التلقائية التي تنطلق داخل أنفسنا للصد والدفاع عندما نسمع النقد؟ لاشك أننا سيغمرنا شعور زائف بالراحة لو تمكنا من تفادي النصائح من الآخرين ، ولكن الحقيقة أن النصائح من الآخرين في كثير من الأحيان قد تكون إيجابية وتساعدنا كثيرا على تطوير أنفسنا ، ولكن قبل كل ذلك يجب أن نستمع جيدا. قد نجد أنفسنا أمام خيارين وكلاهما صعب : إن تجاهلنا النصح قد نفشل ونصاب باليأس ، وإن استمعنا للنصح فقد نصاب بالإحباط لقبولنا التنازل عن كبريائنا وتنفيذ مايقترحه الآخرون ، مع مراعاة أن الاستماع للنصح قد يوصلنا للنجاح فعلا.في أحد الأبحاث التي أجراها أطباء نفسيون ، طلبوا من مجموعة مشاركين تحديد التواريخ التي وقعت فيها أحداث تاريخية معروفة ، وكان هناك جائزة مالية لمن يكون جوابه دقيق أكثر من الباقين.وقام الباحثون بتقديم خدمات استشارية من مستشارين مستقلين للمجموعة لمساعدتهم في دقة الإجابات ، بعض هذه الاستشارات مجاني وبعض منها مقابل مبلغ مادي ، بضعة دولارات، وللمشاركين حرية الاختيار بين المجاني وبين المدفوع.طبعا الجميع كان راغبا في الاستشارات المجانية حول الملاحظات على إجاباتهم ، إلا أن الأطباء اكتشفوا أن الذين اختاروا شراء نصائح بمقابل مادي كانوا يولون أهمية أكثر للرأي المعطى لهم مقابل مادفعوه ، ووافقوا على تعديل إجاباتهم لتتوافق مع الرأي "المدفوع الثمن".لذلك ، نستطيع أن نفهم لماذا يتجاهل الآخرون النصيحة المجانية والتي تعطى لهم بدون مقابل وبدون طلب منهم، لأن النفس البشرية مبرمجة لا شعوريًا على الاهتمام بالشيء "المكلف" والغالي الثمن لاعتقادنا أن هذا الشيء أفضل من غيره وأن الشيء المجاني لاقيمة له.
مشاركة :