عبدالحميد فياض فنان سوري من مواليد مدينة الرقة عام 1953، تخرَّج من كلية الفنون الجميلة في دمشق بدرجة امتياز، وكان ترتيبه الأول على خريجي الدفعة لعام 1983، له العديد من المعارض الفردية والثنائية والمشتركة مع فنانين من سوريا. كما لديه العديد من اللوحات المقتناة في الكثير من دول العالم. في تجربته الأخيرة “بداية خضراء لعالم كان ملونا” يرسم الفنان الألم السوري بأخضر متعفّن. “بداية خضراء لعالم كان ملوّنا” عنوان مُقتبس من اسم لوحة للفنان التشكيلي السوري عبدالحميد فياض. أما العنوان الأصلي الذي وضعه لتلك اللوحة الحادة في تعبيريتها والمتناقضة/الفاعلة في توظيف اللون بأسلوب غير تقليدي فهو “بداية خضراء لعالم ليس ملوّنا”. عمل فني يمكننا اعتباره مفتاحا لعالمه الأخضر الغرائبي/الفوسفوري المُشبع بالمعنى والحار حرارة العشب في يوم صيفي لم يعرف النسمات المُلطفة. أخضر الفنان هو أكثر من لون. هو أبعد من حالة ظاهرية تلوينية. إنه أشبه بمادة محسوسة أولى كـ”الطين”. طين أخضر منزلق تحصّل على هيئته “الانزلاقية” من التموجات الداكنة لبقع “عفنية” لا زالت تحتفظ برطوبتها، نمت وتزحلقت على أجساد شخوصه وفي فضاء لوحته حينما يطغى عليها هذا الأخضرالخاص جدا. طين أخضر تملح بأساطير الفرات وجفّ وتحجّر في أتون الألم السوري الذي سكن عاطفة وعقل الفنان. تكوّنت من هذا الطين التراثي والمعاصر في الآن ذاته شخوصه بشكل عام وإن ظهرت شكليا بألوان أخرى كالأحمر والأصفر. حتى قبيل حلول أخضر الفنان الاستثنائي برز هذا التحجّر المُذهل، خاصة في لوحاته التي أنتجها خلال وبُعيد الحرب السورية ليعبّر من خلالها عن المآسي التي تعرّض لها الإنسان السوري، بداية بأهل محافظة الرقة، التي سبّبت له، أي لهذا الإنسان، تصدّعا في بنيانه المُتماسك. فتخلَقت التشقّقات اللونية على قماش لوحة الفنان مُشكّلة ملامح جديدة لوجوه كل من رسمه إن كان امرأة أو رجلا. الأحمر المتفجر في لوحات فياض الأحمر المتفجر في لوحات فياض وبدأت شيئا فشيئا تظهر الكتل العضلية، ولكن المُسطَحة في أجساد شخوصه المرسومة التي شبعها بألوان صارخة فاكتنزت زخما ضاعفت من حدّته التدرجات اللونية للظلال الدرامية التي أسدلها فياض بتقشف ملحوظ. ظلال نحت بها تباعد الأجساد المنهكة، وتلاقيها العبثي في آن واحد. أجساد مضغوطة وكثيفة أفشت من خلال بنيانها الجسدي المُستجد تعايشها مع التشنّج وتماهت مع العزلة لفترة طويلة قبل أن تصل إلى شكلها شبه النهائي المُتحجّر. ربما لأجل ذلك تحوّلت شخوصه إلى كائنات شبه أسطورية وليس بالضرورة كائنات “خيّرة” دائما. ثم برزت الوحوش الإنسانية لهول ما رأت وتعرّضت له. ولكن أيضا لهول ما أجرمت في حق الآخر. ونذكر هنا عملا علّق عليه الفنان على صفحته الفيسبوكية كاتبا “وبراءة الأطفال في عينيه..؟”. ماذا بعد أن انتقل فياض من رسم أجواء محافظة الرقة في زمن السلام والزخارف البديعة بأسلوبه الخاص والمستوحى من التراث إلى زمن الحرب والشخوص المفجوعة، وصولا إلى الكائنات “الحجرية” ترابية اللون وشبه الخرافية؟ هل حدث لإنسانه فواجع جديدة؟ منذ فترة قصيرة، نشر أحد الأصدقاء صورة عن عمل فني من مقتنياته. كانت عن لوحة للفنان عبدالحميد فياض. عمل فني بارز عرضه الفنان، منذ أقل من سنتين، في صالة “فاتح المدرس” الفنية. ألوان أشبه بمادة محسوسة أولى كـ"الطين" ألوان أشبه بمادة محسوسة أولى كـ"الطين" يُمكن اعتبار هذا العمل قفزة فنية كبرى في عالمه التشكيلي حيث أخذ، من جهة، باللون الأخضر إلى أقصى حدوده التعبيرية بشكل غير تقليدي، ومن جهة ثانية تناول عبره موضوعا شديد المعاصرة شاملا الإنسانية جمعاء. علّق الصديق، غالب صوان، وهو صديق الفنان ومن محبي الفن على الصورة بهذه الكلمات الصائبة “الاقتراب من زمن الترقيم.. أصبح لكل إنسان بار كود”. أربعة شخوص (هي في حقيقتها شخص واحد في وضعيات مختلفة) مُشبعة بخضرة فوسفورية هي أشد قسوة وتفجرا وجدلية من أي أحمر استخدمه الفنان في لوحاته السابقة، وتحيل الناظر إليها إلى العالم الرقمي الحارق بحياديته والمُسخّر للكائنات البشرية دون أي جهد يُذكر. في هذه اللوحة عادت الملامح الإنسانية أكثر رقة. ولكنها ملامح لإنسان جديد غادر خصوصيته ليصبح مجرد رقم موشوم بـ”بار كود” وبأثر سكين عميق هو أثر لجرح كان مؤلما لصاحبه ولم يعد كذلك بعد أن تخثّر أحمره ليمسي جزءا لا يتجزأ من كينونة الإنسان الجديد. علق الفنان عبدالحميد فياض بدوره على تفصيل من لوحته تلك على صفحته الفيسبوكية بهذه الكلمات المقتضبة والكئيبة والساخرة “تصبحون على خير يوما ما..”، لوحة “مفتاحيّة”، إذا صحّ التعبير، ويبقى المتلقي لفنه مترقبا لأعمال أخرى خرجت من جحيم أخضره الفتّاك.
مشاركة :