شهد شرق السودان في الفترة الأخيرة توترا كبيرا أثار مخاوف من انعكاساته على عملية السلام الجارية في هذا البلد، وللمرة الأولى تتحدث السلطة الانتقالية عن دور لاستخبارات أجنبية في الإقليم المطل على البحر الأحمر، وهذا ليس بمستغرب حيث أن دولا عدة على غرار قطر وتركيا من مصلحتها تأجيج الوضع هناك لابتزاز الخرطوم. الخرطوم - بدأت السلطة السودانية تستشعر خطورة ما يجري في منطقة شرق البلاد من تطورات أمنية، واعترفت رسميا بأن هناك دورا لأجهزة استخبارات أجنبية لتغذية التوترات، وخرج ما كان يدور في السر إلى العلن، وباتت دوائر كثيرة تضع عيونها على تصرفات معقدة تقوم بها كل من تركيا وقطر لتحريك الأزمة في الإقليم. وأشارت مصادر سودانية، لـ”العرب”، إلى أن دور بعض الجهات الخارجية يتعاظم ويستثمر في تراكم الأزمات الداخلية لوضع العراقيل أمام السلطة الانتقالية، وإجبارها على تخفيف حدة قبضتها على عناصر النظام السابق، وهو الذراع الذي تعول عليه أنقرة والدوحة لضبط بعض التوازنات، ومنع الخرطوم من الانحياز إلى خصومها. وكشفت المصادر أن كلا من أنقرة والدوحة وجدتا أن توجهات الخرطوم في المرحلة المقبلة تسير ضد مصالحهما، وتراجعت حظوظ الضغوط الناعمة عليها لتوطيد العلاقات معهما، بل أخذت ترسل إشارات تفيد بأنها تميل إلى الانخراط في المعسكر المقابل لتركيا وقطر. وتحدث وزير الإعلام السوداني، فيصل محمد صالح، بشكل مباشر، الثلاثاء، عن وجود أبعاد استخباراتية ودولية وراء إشعال الأحداث في شرق السودان، وضرورة وجود رؤية متكاملة لإدارة الأزمة في ولاية البحر الأحمر. واستشعرت الحكومة خطورة استمرار الانفلات في شرق السودان، وطالب مجلس السيادة، الأربعاء، المعتصمين في الموانئ والطرق الرابطة بين بورتسودان والخرطوم بمهلة يومين لبحث الاستجابة لمطالبهم، وجاءت على رأسها إقالة والي كسلا صالح عمار، ودمج أصحاب المصلحة في مسار الشرق ضمن اتفاق السلام الموقع بين الحكومة والجبهة الثورية. واستجابت قوى سياسية وقبلية في الإقليم لطلب مجلس السيادة، وفتحت ميناءيْ سواكن وبشائر لتصدير البترول ووعدت بتسهيل حركة النقل، وأكدت التزامها برفع المتاريس من بوابات الميناء الجنوبي، والإبقاء على الاعتصامات في كل المواقع حتى نهاية المهلة المحددة، وهددت بالعودة إلى الغلق حال عدم التزام السلطة بتعهداتها. وعقد رئيس الوزراء عبدالله حمدوك لقاءً مغلقاً، الأربعاء، مع والي كسلا صالح عمار وعدد من ممثلي قوى الحرية والتغيير في شرق السودان، وقيل إن قراراً متوقعاً بإقالة الوالي أو دفعه لتقديم استقالته سيصدر قريبا لاحتواء الاحتقان. وتسعى السلطة السودانية إلى نزع فتيل المسببات الداخلية للأزمة، كي تستطيع محاصرة أجهزة الاستخبارات التي توظفها، لأن المنطقة تمثل بالنسبة إلى الخرطوم أهمية حيوية، وتفجير النزاعات داخلها يقطع الطريق على تصورات يعول عليها السودان في علاقاته الإقليمية والدولية. وتدفع الخرطوم باتجاه استخدام جميع أدواتها لإخماد فتنة قد تتمدد عشوائيا، في ظل تواتر الحديث عن ترتيبات يفترض أن يصبح السودان جزءاً منها للمشاركة في تأمين الملاحة في مجرى البحر الأحمر. وقال رئيس لجنة السياسات بحزب الأمة القومي، إمام الحلو، إن السودان سيكون لديه دور فاعل في تأمين البحر الأحمر، وأن العلاقات المعتدلة التي ينتهجها مع دول الجوار والخليج تستهدف وضع رؤية مستقبلية لتأمين الحدود البحرية الشاسعة بالتعاون مع مصر والسعودية والإمارات وإريتريا. وأضاف لـ”العرب” أن القلاقل الأمنية تنطوي على بعد قبلي يرتبط بالخلافات بين مكونات الإقليم، لكن تتداخل فيها أبعاد خارجية لا يمكن فصلها عن محاولات استغلال قوى إقليمية محسوبة على النظام البائد لتحويل موانئ الإقليم على البحر الأحمر إلى معبر لتهريب الأسلحة إلى دول عدة. وأكد أنه “جرى في أوقات سابقة رصد بواخر إيرانية لتهريب الأسلحة عبر ميناء بورتسودان من خلال وسطاء محسوبين على نظام عمر البشير، في طريقها إلى دروب سيناء بمصر ومنها إلى غزة”. ويعتقد البعض من المراقبين أن تجميد الخرطوم اتفاقيات وقعها نظام البشير مع تركيا لإدارة جزيرة سواكن، يشتم منه أنه ليس بعيداً عن التصعيد الحالي، لأن نظارات البجا التي تقود التصعيد متهمة بأن لديها صلات مباشرة مع الحركة الإسلامية السودانية، وصلات غير مباشرة مع قوى إقليمية محسوبة على التنظيم الدولي للإخوان. وحسب نشطاء في شرق السودان فإن الحالة الأمنية الرخوة في الإقليم وعدم حسم الحكومة بشكل مباشر مستقبل إدارة الموانئ وتطويرها والجهات التي ستكون مسؤولة عن ذلك، تجعل من التدخلات الخارجية مسألة واقعية، مع وجود استقطاب إقليمي بشأن الهيمنة على حركة الملاحة في البحر الأحمر، وسبل تسييرها بما يخدم تقديرات عسكرية تضعها كل من تركيا وإيران في حساباتها لدول القرن الأفريقي. ولفت الباحث السوداني، عبدالمنعم أبوإدريس، إلى أن البعد الإستراتيجي يظل حاضراً في أي أزمة تنشب في الإقليم، لأنه يتاخم الحدود الإثيوبية والإريترية والمصرية، ويطل على ساحل البحر الأحمر بأكثر من 700 كيلومتر، وبه تداخل عرقي مع الدول المجاورة، ما يجعل المنطقة ذات تأثيرات فعّالة على الأمن في المنطقة. وأشار لـ”العرب” إلى أن شرق السودان منطقة رخوة تبحث فيها التنظيمات الإرهابية عن موطئ قدم لها، وقريبة من سواحل صومالية تهيمن على جزء منها جماعات متطرفة تتعاون مع تركيا. وقرر مجلس الأمن والدفاع السوداني، الثلاثاء، تكوين لجان لمعالجة قضايا الإقليم، وتسريع إجراءات عقد المؤتمر التشاوري الدستوري الجامع لمواطني شرق السودان بشأن اتفاقية السلام التي تم توقيعها في جوبا قبل أيام. ويريد هذا التوجه منع توظيف الأزمة، وعدم اضطرار السودان إلى مواجهة قوى خارجية في توقيت بالغ الحساسية بالنسبة إلى السلطة الانتقالية، وكل ما تريده معالجة الأزمات التي يجري توظيفها أمنيا بطرق شتى.
مشاركة :