الجزائر - يحاول اسلاميو الجزائر استغلال كلّ الفرص المتاحة أمامهم للظهور في صورة المدافع على هوية البلاد، وآخرها برفض مشروع تعديل الدستور، الذي يصوّت عليه الجزائريون في شهر نوفمبر القادم. وأعلن حزب “حركة النهضة” الإسلامي، في بيان الجمعة، اعتزامه التصويت بلا على المشروع لأنه “غير توافقي، ولا يعكس رأي الأغلبية، بل يكرس لخيار الأقلية”. وفي اليوم نفسه، أعلن حزب “جبهة العدالة والتنمية” (إسلامي) أيضا اعتزامه رفض المشروع، إذ اعتبر رئيسه عبد الله جاب الله، في بيان، أن “هذا الدستور وضعه تيار واحد هو التيار العلماني ذو النزعة الاستئصالية”. وأعلنت “حركة مجتمع السلم”، التي تحاول لعب دور القاطرة التي تقود المعارضة السياسية عبر فتح نقاش هوياتي تظهر من خلاله رائدة التيار المدافع عن هوية وثوابت المجتمع، وفي طليعة الجبهة المناهضة للتيار الفرنكفوني (الفرنسي)، في 28 سبتمبر الماضي، رفضها التصويت ضد مشروع تعديل الدستور للسبب ذاته. ودعا رئيس الحركة عبد الرزاق مقري الناخبين إلى رفض المشروع والذهاب بالملايين إلى الصندوق للتصويت ب (لا) رفضا للدستور والتيار العلماني، معتبرا أن الدستور "خروقات" مست هوية الجزائريين. ومن أبرز نصوص مشروع الدستور المعدل التي ينتقدها إسلاميو الجزائر، الفقرة الثالثة من المادة 51، التي تقول إن “الدولة تحمي المسجد من أي تأثير سياسي أو إيديولوجي”، حيث يعتبرون أن هذا النص قد يجعل إمام المسجد مثلا ممنوعا من الحديث عن مسائل فقهية مثل الربا والعدل وغيرها. كما يعترضون على الفقرة الرابعة من المادة 65، وفيها أن “الدولة تسهر على ضمان حياد المؤسسات التربوية والحفاظ على طابعها البيداغوجي قصد حمايتها من أي تأثير سياسي أو أيديولوجي”، فهذا النص ـ بحسبهم ـ يجعل المنظومة التربوية حيادية ودون هوية، وهذا مرفوض لأن المدرسة قد تكون حيادية عن السياسة، لكن ليس عن هوية الأمة وقيمها. ويرفض الإسلاميون أيضا الفقرة الأولى من المادة 71، التي تنص على أن “الأسرة تحظى بحماية الدولة”، إذ ينتقدون إسقاط دور المجتمع في حماية الأسرة والإبقاء على دور الدولة فقط، منتقدين أيضا خلو المشروع من نص صريح حول اعتماد الشريعة الإسلامية مصدرا للتشريع. مناشدة لتبّون وفي ظل رفض الأحزاب الإسلامية لمشروع تعديل الدستور، أعلنت جمعية العلماء المسلمين الجزائريين تحفظات على بعض مواده معتبرة أنها “بمثابة ألغام تمس بالهوية الوطنية ومكانة الإسلام" ومتحججة كذلك بـ "الغموض حول حرية العبادة وعدم ضبط ما يتعلق بالوحدة الوطنية وما يتصل باللغة”. واعتبرت أن “ما جاء في تلك المواد يهدد مستقبل الوطن، والأصل في الدساتير أن تُكتب بلغة واضحة المعاني لا تحتمل التأويل”، مناشدة الرئيس عبد المجيد تبون، الأخذ بالحسبان خطورة تلك “المواد الملغمة”، ليعمل على تقويمها. وجاءت تصريحات تبون، الإثنين، مخيبة لآمال الاسلاميين، اذ أكد أن “مشروع تعديل الدستور يندرج ضمن متطلبات بناء الدولة العصرية، ويستجيب لمتطلبات الشعب في ممارسة الديمقراطية الحقيقية”. ورأى تبون، في رسالة بمناسبة ملتقى عُقد بالعاصمة تحت عنوان “الدستور في خدمة المواطن”، أن “الشعب فصل في مسألة الهوية، ووحدته قيمُهُ الوطنية والدينية، التي جسدتها ثورة التحرير (ضد الاستعمار الفرنسي) 1954/ 1962”. وتعهد بـ”عدم المساس بعناصر الهوية الوطنية” في الدستور المقبل، وبالتالي “لا يمكن عرضها من جديد على النقاش السياسي ولا تكون محل جدال”. مواقف متباينة أفرز الفتيل الهوياتي واللغوي الذي أثاره مشروع الدستور الجديد، ولاءات سياسية وأيديولوجية تهدد بتفكيك المجتمع الجزائري، في ظل غياب المناخ المناسب من الحريات والاستقرار السياسي في البلاد، للدخول في نقاشات حول هوية الجزائريين. ويقول المحامي الجزائري عمار خبابة، إن “هناك فئة ترفض كل ما يأتي من السلطة وتتشكل نواتها الصلبة من الأحزاب والشخصيات التي ترى أن انفراج الأزمة يكون بدستور جديد يعده مجلس تأسيسي”. ويضيف أن “هذه الفئة تختلف نظرتها إلى الدستور، حيث تريد فصائل منها دستورا خاليا من أي ثوابت، بحيث يتضمن القواعد العامة ويُترك المجال واسعا للتشريع لضبط العلاقات بين الشعب والسلطة”. ويقول إن “هناك فصيل آخر يرى ضرورة مراعاة المشروع للبعد الحضاري للأمة ومقوماتها الأساسية كمبدأ الشريعة الإسلامية”، في إشارة إلى الأحزاب الإسلامية. ويوضح خبابة أن “هذا الجناح يتحفظ على مواد لها علاقة بالدين واللغة والمدرسة والتعيين في البرلمان، ويرى الحل في التصويت بـ"لا". ويستطرد: “يوجد جناح آخر يمثل الأغلبية يعتقد أن التعديل الدستوري حمل إضافات نوعية، ويدعو إلى التصويت بنعم”، في إشارة إلى التيار العلماني. خلفيات الرفض يقول الصحفي الجزائري المختص في الشأن السياسي عبد الحميد عثماني، إن “الموقف السلبي للإسلاميين من الدستور كان متوقعا بالنظر إلى خلفياتهم الأيديولوجية ومطالبهم السياسية بشأن الإصلاح الدستوري" موضحا أن “خيارهم بالتصويت ضد الوثيقة المعروضة للاستفتاء الشعبي يرتكز على دوافع هوياتية وسياسية مرتبطة بنظام الحكم تحديدا.” ويزيد بأن هذه التحفظات كثيرة وفق تقديرات الأحزاب الإسلامية الثلاثة (حركة مجتمع السلم وحركة النهضة وجبهة العدالة والتنمية)، لكن أبرزها هو “التحفظ على التوجهات العلمانية لمشروع تعديل الدستور”. ويتابع: “يعتقد الإسلاميون أن الوثيقة التي أعدها خبراء قانون تعبر عن روح وأفكار التيار العلماني، الذي يدفع بقوة نحو تمريرها.” ويستطرد عثماني: “تعتبر الأحزاب الإسلامية أن مواد الدستور القادم تمس بالهوية الوطنية، وأولها موقع الدين الإسلامي كمبدأ رئيس ناظم للمجتمع الجزائري”. ويردف: “هي ترفض مساواة الإسلام مع باقي الأديان باسم الحريات ومعاملة المسجد مثل (بقية) دور العبادة، مثلما تخشى أن يؤدي تحييد المدرسة إلى علمنتها.” ويوضح “لذلك تعتبر القوى الإسلامية المشروع من الناحية الأيديولوجية تكريسا لنفوذ الأقلية العلمانية، وخضوعا للتوجهات الأممية المتأثرة بضغوطات العولمة، وهي تتحفظ على إعطاء الالتزام بتنفيذ المعاهدات الدولية مركزا أسمى من الدستور، لأن هذا حسبها سيكون على حساب الخصوصيات الحضارية بكل أبعادها.” وعلى المستوى السياسي، يقول عثماني إن “الإسلاميين يرفضون تكريس النظام شبه الرئاسي، فهم يتبنون النظام البرلماني”. ويضيف: “الإسلاميون ينتقدون بشدة منح الرئيس صلاحيات واسعة يصفونها بالملكيّة في غياب آلية قانونية للمساءلة، زيادة على مطالبهم بتقوية صلاحيات سلطة الانتخابات واستقلالية القضاء.” ويعتبر أن دعوتهم إلى التصويت ضد الدستور هي “بمثابة الرغبة في التمايز عن مجموعة مقاطعة الاستحقاق الانتخابي بالكامل”. ويبرر قوله بأن “هذا يضعهم في موقف متطرف قد يحرجهم ومضايقات مستقبلية مع السلطة، خاصة أن الساحة الحزبية مقبلة على انتخابات برلمانية ومحلية مبكرة عقب الاستفتاء.. هم (الإسلاميون) يتحاشون الاصطدام بها (السلطة) خشية العقاب الانتخابي”. ويلقى مشروع التعديل الدستوري تحفظات من نشطاء الحراك الشعبي أيضا، الذين يعتبرون أنه “محاولة فرض خارطة طريق للنظام القائم رغم ثورة يشهد العالم على سلميتها وعلى صبر الجزائريين كل هذه الفترة”. ويعارض جزائريون مشروع تعديل الدستور لتضمنه نصوصا ضبابية قد تحدّ من الحريات وعلى رأسها حرية التعبير، خاصة مع الاتهامات الموجهة للنظام بمحاولته إسكات الآراء الناقدة باعتقاله نشطاء من الحراك ومراسلي وسائل إعلام دولية. ويتألف مشروع تعديل الدستور الجزائري من ديباجة و7 أبواب، ويضم في أبرز مواده منع الترشح للرئاسة لأكثر من فترتين (5 سنوات لكل واحدة) سواء كانتا متتاليتين أو منفصلتين. كما يشمل تعيين رئيس الحكومة من الأغلبية البرلمانية، والسماح بمشاركة الجيش في مهام خارج الحدود، بشرط موافقة ثلثي أعضاء البرلمان. ويعتبر تبون تعديل الدستور بمثابة حجر الأساس في إصلاحات جذرية تعهد بها قبل وبعد اعتلائه سدة الحكم في 19 ديسمبر الماضي. وفاز تبون بأول انتخابات رئاسية أجريت بعد أن أجبرت احتجاجات شعبية، في 2 أبريل 2019، عبد العزيز بوتفليقة على الاستقالة من الرئاسة بعد 20 عاما في السلطة.
مشاركة :