الحقيقة من مفاهيم الفلاسفة إلى المفاهيم الغريبة | أبو بكر العيادي | صحيفة العرب

  • 10/8/2020
  • 00:00
  • 7
  • 0
  • 0
news-picture

من المسلّمات أن البحث عن الحقيقة هو غاية الفلسفة، فهي لدى أفلاطون قيمة مطلقة تماما كالخير والجمال، ولكن ما ظلّ مثار جدل طويل هو مفهوم الحقيقة نفسها وكيفية الوصول إليها، خصوصا أنها قد تلتبس أحيانا في الأذهان وتختلط بالواقع. ما يعني أن ثمة أمام الباحث عنها مشكلتي تحديد ومنهجية. الحقيقة ثيمة شغلت الفلاسفة منذ القدم من سقراط وأفلاطون إلى ديكارت ونيتشه مرورا بهيراقليطس والفكر الطاوي لكونها تنفتح على أكثر من سؤال، سؤال الكائن، والمتافيزيقا، والواقع، والفصل بين الصواب والخطأ، بين الحقيقي والكاذب. ولئن عرّفتها المعاجم بكونها صفة ما هو حقيقي، وتوافقا بين الواقع والإنسان الذي يفكّر فيها، ومعرفة مطابقة للواقع، فإن السؤال الذي يثار هو ما الواقع الذي ينبغي أن تتوافق معه تلك المعرفة. والإجابة، كما في معجم لاروس، هو ما يمكن للعقل، ويُلزَمُ به، أن يعطي موافقته على علاقة تطابق مع موضوع التفكير، في تناسق داخلي مع الفكر. ما يعني أن الحقيقة هي المعرفة الصحيحة للواقع الذي يمكن أن يكون موضوعا. لو أجزنا فرضا أن الحقيقة توافق مع الواقع، أو هي واقع أو ذهن، فسوف نجد أنفسنا أمام حشد من المفردات التي لها في الاستعمال العادي مستوى واحد مثل حقيقة، حقيقي، واقع، معرفة، وضْعَنة objectivation، ما يوحي بأن المعنى المشترك للحقيقة متأتّ من المعرفة الموضوعية، وأن الحقيقة صنو للواقع كمعطى لا غبار عليه. الحقيقة عند الفلاسفة لقد نظر الفلاسفة إلى الحقيقة كمعرفة، كعلم، ولئن كان الشكوكيون ينكرون وجودها فإن أفلاطون يعتقد أن ما يقبل التغيير لا يستحق اسم وجوده، ولا أن يكون موضوعا لمعرفة، لأن المعرفة الحق في اعتقاده لا تكون إلا ثابتة. فالأفكار في نظره أكثر اكتمالا من الواقع، والحقيقة الوحيدة هي فكرة الخير، خير مطلق موضوع خارج الإنسان، سابق لكل فعل وكل تجربة، لأنه كان يؤمن بوجود مبدأين أساسيين: أن الأفكار أفضل من المحسوس أي الواقع، وأن الروح، التي هي خالدة، تختلف عن المادة، الفانية. أما أستاذه سقراط في اليونان القديمة، فكان يحطّم تدريجيا كل الآراء السائدة ليذهب إلى ما يتبقى، أي الحقيقة. وقد كان البحث عن الحقيقة لديه ذا طابع ديمقراطي شعبي، لكون الحقيقة كونية صالحة لكل البشر حيث ما كانوا، فهي مثل أعلى لا يمكن للمرء أن يفكر إلا من خلاله. ظلت المقاربة الإغريقية للحقيقة سائدة في الفكر الأوروبي حتى القرون الوسطى وظهور توما الإقويني الذي بيّن أن الحقيقة ليست الواقع في حدّ ذاته ولا الذكاء، بل توافق الواقع والذكاء، والإمساك بالحقيقي معناه الالتزام بما هو، ولو أنه يعتقد أن الواقع هو الذي ينطبع فينا وليس العكس، وفي مجال المعرفة، تستخرج الملكات الحسية صورة حساسة عن مادة وتزود بها الذكاء، إذ لا شيء في الذكاء لم يكن من قبل في الحواس. ثم كان ديكارت مبشرا بالحداثة، حيث صار العقل مع مبتكر الكوجيتو هو القطب الذي يتيح للإنسان أن يضع كل قوّته في الميدان لاكتساب معرفة حق. ثم جاءت الأفكار الجوهرية للأنوار والحداثة والأنسنة حول المعرفة والحقيقة كامتداد لفكر ديكارت، وكان جوهر الحقيقة مصوغا كيقين للتمثل، بمعنى وضع الشخص شيئا أمامه انطلاقا من ذاته ليعرّف ما هو قائم، بطبيعته تلك، بأنه مؤكّد. وكان نيتشه أهمّ من فجّر فكرة الحقيقة، إذ رأى ألا وجود لأحداث بل لتأويلات، وأنّ التأويل لا نهاية له لأننا يمكن أن نؤول التأويلات، ومن ثمّ لا يمكننا أن نصادف حقيقة قصوى، ولا أن ننتج نظريات نتخذها مرجعا، فالبحث عن الحقيقة هو نموذج القوى الارتدادية، إذ هو يميز بين نوعين من القوى، قوى ارتدادية وقوى فاعلة والهدف تحقيق التوازن بينهما. وفي تصوره أن القوى الارتدادية لا تستطيع إحداث أثرها دون بتر أو إلغاء قوى أخرى، وأن الحقيقة تتبدى دائما عن طريق نفي النماذج السابقة. أما هوسرل فقد طرح من جديد فكرة الحقيقة والمعرفة الثابتة، ولا يفترض أي نظرية حول طبيعة المعرفة، فهو على غرار نيتشه يرفض الميتافيزيقا والفلسفة كرؤية للعالم، ويتصور منهجا طريفا هو التقليص الفينومينولوجي الذي يسمح بردّ الموضوع إلى المبدأ الذي يمثله، أي الوعي الخالص. وفي رأيه أن العالم في الموقف الطبيعي يعتبر موجودا وأنا داخله، فيما المقاربة الفينومينولوجية تضع هذا الطرح بين قوسين، وتعلّقه. بينما ذهب هايدغر أبعد من ذلك، فهو يطالب بأن تعود الفلسفة إلى الإنسان في العالَم، وأن الفينومينولجيا لا تعود إلى أصل الأشياء إلا إذا استعادت ثيمة الميتافيزيقا، ولو بمعناها الأنطولوجي أي علم الكائن. إن مسألة الحقيقة هي الحاجة إلى الكشف عن معنى علاقتنا بالكائن بغرض ولوج البنية الأساسية لإمكانيته. فهي عند هايدغر كشف وإماطة لثام، والفينومينولوجيا عنده تعني إظهار الكائن انطلاقا من ذاته ما يُرى كما يتبدّى، حيث ينظر إلى الإنسان من خلال كيفية وجوده وليس فقط كوعي. مفاهيم غريبة قد نجد أحيانا فهما غريبا للحقيقة، يصدر حتى عن أعلام مشهورين، فهذا الأميركي وليم جيمس، مؤسس البرغماتية، يعتقد أن الحقيقي لا يمكن أن يكون معياره ما هو مطابق للواقع، لأن الواقع بالغ الثراء، كثير التغير، ولذلك كان المعيار الذي صاغه هو المفيد والمجدي، وبذلك تكون الفكرة العلمية حقيقية إذا كانت لها تطبيقات خصبة، ويكون المعتقد حقيقيا إذا عاد على صاحبه بالرضى، أي أن الحقيقة في تصوره هي ما تكون فيها هموم الفرد على ما يرام. نيتشه كان أهمّ من فجّر فكرة الحقيقة، إذ رأى ألا وجود لأحداث بل لتأويلات وأنّ التأويل لا نهاية له أمّا الإبستيمولوجي النمساوي كارل بوبر فقد بيّن أن معيار حقيقة معطى علمي لا ينبغي أن يكون قابليته للتثبّت، بل قابليته للتزوير، لأن النظرية في رأيه لا تكون حقيقية إلا إذا انفتحت أمام النقد، أي أن تكون قابلة للنقض، وهو ما لا يستجيب له التحليل النفسي والماركسية مثلا، لأن عالم التحليل النفسي يرى مقاومة لاواعية لدى المريض الذي ينتقده، والماركسي ينعت بالبورجوازي كلَّ موقف سلبي تجاهه. ويبقى أطرفها مفارقة إبيمينيدس الكريتي، فقد روت كتب التاريخ أنه عندما سئل هل ثمة مقترحات لا هي صحيحة ولا هي خاطئة، أجاب بقوله “نعم، كل الكريتيين كاذبون”. فإمّا أنّ ما قاله حقيقة، وعندئذ فهو كاذب، لأنه من كريت، فيكون قوله خاطئا حين يزعم أن كل الكريتيين كاذبون. وإمّا أنه يكذب، عندئذ يكون تأكيده صحيحا. ويقال إن عالم المنطق فيلاتوس انتحر لأنه لم يتوصّل إلى حل هذه المفارقة وإيجاد الحقيقة.

مشاركة :