التكبّر عيبٌ متوارث من عصر إلى آخر | أبو بكر العيادي | صحيفة العرب

  • 9/10/2020
  • 00:00
  • 10
  • 0
  • 0
news-picture

التكبّر قديم قدم الوجود البشري على الأرض، تناوله علماء النفس والفلاسفة بالدرس، وقدّم عنه الكتّاب أمثلة تعرّي شذوذه وعواقبه، ولكنه أضحى اليوم سمة من سمات هذا العصر، ونوعا من الباتولوجيا التي تصيب المرء عندما يحوز مركزا اجتماعيا مرموقا، يعطيه نوعا من النفوذ على من هم دونه، أو يوهمه بعض من حوله بأنه يفوق المتقدمين والمتأخرين نباهة ومعرفة وموهبة. التكبّر في علم النفس عُجْبٌ وخُيلاء حدّ العجرفة، يتبدى في الخطاب الفجّ الوقح، والسلوك المتعالي الذي يوهم من خلاله صاحبُه أنه فوق الجميع، لا أحد يضاهيه أو يبلغ مقامه. ولذلك كانت كل الأديان تحث على التواضع لأن المتكبّر هو الله وحده، المتكبر عن كل سوء، المتعظم عمّا لا يليق به من صفات الحدث والذمّ. وكان التكبر في شرعنا خطيئة، لأنه نوع من التحدي للذات الإلهية، ولكن عندما تغيب أو تزول فكرة “المُفارق” على رأي كانْط (وكان استعمل تلك الصفة للدلالة على سموّ الله على المخلوقات ومفارقته لها) تتحول الكبرياء إلى تكبّر (وفيها معنى التعظُّم والامتناع عن قبول الحقّ معاندةً) لا يراد منه المتّصف به تحدي الذات الإلهية بل تحدي إنسان مثله؛ فباسم نجاحه الاجتماعي، يعتقد أن الآخرين لا قيمة لهم أمامه، على غرار البرجوازي في تصرّفه تجاه من لا يملك. المتكبّر لا يقنع بالقول إنه لا يدين بنجاحه لأحد، بل يسعى لإقناع الآخرين بأن مركزه ليس وليد صدفة، بل هو دليل على أنه أكثر جدارة من غيره، متجاهلا الظروف الاقتصادية والاجتماعية التي مكنته مما لم يحصل عليه غيره، دون أن يكون ذلك الآخر دونه جدارة بالضرورة.والمتكبّر لا يعتبر فقط أن له الحق في الكلام، بل يعتقد اعتقادا راسخا أن كلامه هو الوحيد الذي له ما يبرره، وهذا ما نشاهده في منابر وسائل الإعلام، مع محللين ومعلقين يداومون الثرثرة للدلالة على عمق معرفتهم ودرايتهم بكل شأن وإلمامهم بكل صغيرة وكبيرة في شتى المواضيع المطروقة، من الرياضة إلى الدين، ومن الفن إلى السياسة، ومن الأدب إلى الاقتصاد، كي يبرروا استحواذهم على الكلمة واستفرادهم بها، لأن المتكبر لا يسكت أبدا، ولا ينصت أبدا، فهو يخوض في كل مناسبة معركة دونكيشوتية للبرهنة على تفوّقه. فوق الوجود قد يبلغ التكبّر بصاحبه حدّ تحدي الذات الإلهية، كشخصية دون جوان الذي أكّد أن قانونه الأوحد كامنٌ في رغبته، وأنه يمكن أن يتحدى الرب في الإغراء، ولكنه لم يلبث أن اكتشف بعد فَوات الأوان تَناهيه، وأنه منذور للموت والفناء شأن سائر المخلوقات. ومثل هذا حاضر في سرديات القديس أوغستين وحديثه عن كِبْره كخطيئة كبرى ولو أن غلوّه قاده في النهاية إلى الوعي بالحدود التي وضعها الربّ. لقد ساهم التطور التكنولوجي في تغذية مشاعر التكبر لدى إنسان هذا العصر، لأن التقنية تغيّب لديه الشعور بكينونةٍ فوق الوجود المادي، فما حاجته إلى ذات إلهية عليا إذا صار قادرا على صنع آلة توفر له ما يريد، بالحجم الذي يريد. على المتكبرين الاستعانة ببروميثيوس وقراءة كانط وهيغل (لوحة للفنان بسيم الريس) على المتكبرين الاستعانة ببروميثيوس وقراءة كانط وهيغل (لوحة للفنان بسيم الريس) عندما سرق بروميثيوس النار من الآلهة في الميثولوجيا الإغريقية، كان في حالة كبر إيجابية، في حين أن من يبتكر تقنية اليوم لا يشعر أنه يسرق أي شيء، ما يوهمه بأن العالم من صنع يديه، وأن هذا العالم لا شيء سوى ما يفعله الإنسان به. ولعل أكبر تكبّر هو تيار “ما بعد الأنسنة” transhumanisme الذي يسعى دعاته إلى الانتصار على الموت. ولا يعني ذلك أن العلم في حدّ ذاته متكبّر، بل الذنب في ما يرافقه من شعور بالعظمة، يتبدى في خطاب المتخصصين حين يزعمون سنّ قانون الواقع، فالمتكبرّ لا يعترف أبدا بأنه لا يدري، وبأن ثمة نقاطا غامضة في سرديته، على غرار ما نلاحظه في الخطابات الاقتصادية المتمركزة حول التنافس الدائم. إلغاء الماضي ثمة أيضا تكبّر ما بعد حداثي، يتجلى في جيل يعلن جهله بلا حياء، بدل الاتكاء على معرفة تمحو عنه ذلك الجهل، إذ عادة ما يقول شباب العالم الرقمي: ما أجهلُه لا يهمّني ما دمت لستُ مبعثَه ولا نهايتَه. التكبر لا يصيب الإنسان العادي وحده، بل يصيب المفكرين أيضا، باسم المعرفة، مثل ميشيل أونفري الذي يدّعي أن له القدرة على إلغاء مفكرين أمثال كانْط وماركس وفرويد بمجهوده الخاص، ويوهم مستمعيه وقرّاءه بأنهم سيكونون بفضله أمام الحقيقة الحقّ. وهذا شبيه بما أسماه أحدهم “تكبّر الحاضر” التي يعتقد دعاته أن الأزمنة الراهنة لا تدين بشيء للماضي، وأن البشر اليوم ليس لهم أي دَين تجاه من سبقوهم على الأرض، وأن العالم سيكون فقط ما سوف يفعلون به. ما يعني ألا شيء يفوقهم، حتى في القرون الغابرة. وحسبنا أن نطالع ما ينشر في فيسبوك لنعرف مقدار التعالي والزهو والخيلاء التي انتشرت انتشار جائحة كوفيد – 19. قد يُعيي التكبّر من يداويه إذ استفحل بصاحبه، والخير أن يعالج منذ الصغر، في المدارس، بأمثلة من الخرافات والحكايات والأشعار التي تبيّن للأطفال مآل المتكبّر الواقع في شراك خيلائه. أما الكبار فلا علاج لهم إلا متى وعوا بأن علوّ شأنهم في بيئة ما ليس بالضرورة هو نفسه في فضاء أوسع، فكم من عظيم في عشيرته انهزم عند أول نزال مع من يفوقه عظمة في عشيرة أخرى، كنجوم الكرة العرب، الذين سرعان ما تخبو أنوارهم وتنطفئ عند لقاء الفرق الغربية في المحافل الدولية، حتى ليصحّ أن يقال لهم ما قاله جرير “فغُضّ الطّرف إنك مِن نُمير/ فلا كعبًا بلغتَ ولا كِلابًا”. يقول الفرنسي ميكائيل فوسيل، أستاذ الفلسفة بمدرسة البوليتكنيك “أنا محظوظ لأني عادة ما يقع تقديمي في وسائل الإعلام كـ’فيلسوف’، وهي صفة يمكن أن تغذّي فيّ نوعا من التكبّر. ولكي أقِيَ نفسي منه، أقرأ صفحة لكانْط أو هيغل، فتكون كافية لإقناعي بالطريق الذي ما زال أمامي كي أصبح فعلا فيلسوفا. كل واحد يمكن أن يجري تجارب مماثلة، أن يواجه من هو أكبر منه قدْرا دون أن يشعر بالصَّغار. بالعكس، سوف يجد الفرح في عظمة الآخرين”.

مشاركة :