يعتبر الهولندي كيس فان دونغن من طليعة فناني أوائل القرن العشرين، ابتكر التوحّشية رفقة ماتيس وفلامينك، وكان له حضور بارز في صالونات باريس ومتاحفها. ولكنه أثار فضيحة أولى بعرض لوحة عري، ثم فضيحة ثانية حين قبل دعوة من النازيين لزيارة برلين. باريس – ولد الفنان الهولندي كيس فان دونغن (1877 – 1968) في ضواحي مدينة روتردام من أسرة متواضعة. درس الفنون في الأكاديمية الملكية للفنون الجميلة بهذه المدينة، ومال عند التخرّج إلى رسم بورتريهات البحارة، وكذلك المومسات اللاتّي كان يتردّد عليهنّ في الحي الأحمر، لغايات فنية. استقر بباريس عام 1897، وما لبث أن اقترن بفتاة هولندية مهاجرة مثله، وبدأ يعمل كرسام في بعض الصحف حيث تعرّف على الناقد البارز فيليكس فينيون. وما لبث أن بدأ يعرض أعماله في بعض الأروقة إلى أن ساهم في صالون الخريف بلوحة “قفص الوحوش” رفقة هنري ماتيس، وأندري دوران، وموريس دو فلامينك عام 1905. ولكن المعرض قوبل بانتقاد شديد قاده الناقد لويس فوكسيل، بسبب تلك الطريقة الغريبة وقتها في استعمال الألوان الفاقعة، إذ كان يستعمل الأصباغ الأساسية بفَرشها مباشرة على القماشة، ويؤثر الوجوه النسائية التي يعمل على جعلها نيّرة تبرز فيها عيون فحمية وشفاه بالغة الحمرة. ثم كانت الفضيحة مع لوحة “الشال الإسباني” عام 1913، فقد سحبت من معرض الخريف بباريس منذ اليوم الثاني من عرضها، بأمر من رئيس مخفر الشرطة، بتهمة الاعتداء على الأخلاق الحميدة. هذه اللوحة تمثل زوجته عارية إلاّ من حذاء أصفر بكعب عال، وجوارب صفراء طويلة حدّ الركبتين، وشال مزخرف بالأزهار ينحدر على كتفيها وهي تطعم الحمام بيدها اليمنى، بينما يبدو على يسارها شحّاذ مسنّ جاثيا على الأرض يجذب طرف الشال بيد ناحلة. وليس العري وحده هو الذي أثار حفيظة الناس، بل اللون الأصفر الذي اقترن في الأذهان بمحظيات القصور منذ روما القديمة إلى القرن الثامن عشر، ثم صار في القرن التاسع عشر قرين البغاء، تستعمله المومسات في ظلام الشوارع المقفرة كي يستدل إليهنّ الزبائن، ثم اتخذ دلالة سلبية، حيث صار صنوا للخيانة والرذيلة. وكان فان دونغن، بما عرف عنه من رغبة في الاستفزاز والإثارة، يتوسّل برموز الحقب القديمة، ويعيد إليها الحياة، ورغم أن اللون الأحمر حلّ محلّ اللون الأصفر منذ مطلع القرن العشرين، فإن هذا اللون لم يفقد رمزيته في الأذهان، وخاصة في الصور. كيس فان دونغن استطاع أن يفرض أسلوبه الخاص وينحت اسمه في تاريخ الفن التشكيلي كيس فان دونغن استطاع أن يفرض أسلوبه الخاص وينحت اسمه في تاريخ الفن التشكيلي ومن الطبيعي أن يحتجّ فان دونغن على ما حدث، فقد نشرت صحيفة “كوميديا” تنديده بمصادرة الفن قائلا “ماذا يفعل رئيس المخفر في معرض فني؟ أليس حريّا به أن يراقب ما يجري في شارع الشنزيليزي؟ هناك سوف يجد ازدراء بالأخلاق الحميدة أكثر ممّا هو في لوحتي.. فليس في عملي ما يثير الاستنكار، فهو بسيط، توراتي المرجعية، ولم أكن أتصوّر أن يرتاب الناس حتى من نيّاتي. لقد رسمت امرأة عارية، دون أن أشوّهها أو أبتر أعضاءها، فهل هذه جريمة؟”. ورغم أن رفاقه من الفنانين تعاطفوا معه إلاّ أن ذلك لا يمنع من القول بأن فان دونغن كان يهوى مخالطة النساء لرسم بورتريهاتهنّ في هيئة عذارى بيزنطيات حديثات، حيث الوجوه مطلية بالمساحيق، والعيون محوقة بالأسود. وكان النقاد يعتبرون إسرافه في استعمال الألوان الفاقعة عيبا، فلما اندلعت الفضيحة، صار مطلوبا في الأوساط البورجوازية لرسم بورتريهات سيداتها، وأصبح من أشدّ منافسي الإيطالي جوفانّي بولدوني، ما قاده إلى التعرّف على الكونتيسة لويزة كازاتي التي كانت تموّل عددا من الفنانين في مطلع القرن العشرين. في هذا الوسط، تعرّف على ليا جاكوب الشهيرة بـ”جاسمي” فترك زوجته واستقر مع عشيقته الجديدة في فندقها الخاص بغابة بولوني غرب باريس، ففتحت له أبواب الشهرة بتعريفه بشخصيات المجتمع الراقي، حيث صار قبلة ممثلات المسرح، ثم السينما، ولم يَخْبُ نجمه حتى بعد انفصاله عن جاسمي وانتقاله إلى بيت فاخر في الدائرة الثامنة عشرة بباريس، غير بعيد عن “باتو لافوار” (أي السفينة المغسل، وهو الاسم الذي أطلقه عليه ماكس جاكوب بسبب كمّ الغسيل المنشور في سطح البناية) حيث أقام أول قدومه إلى باريس بجانب عدد من الفنانين الطلائعيين أمثال بيكاسو، وموديلياني وأبولّينير. وكان ينظم في بيته سهرات باذخة يحضرها مشاهير الفنانين والفنانات. ورغم قبوله دعوة من النحات والرسام الألماني أرنو بريكر لزيارة ألمانيا النازية خلال الحرب العالمية الثانية رفقة مجموعة من الفنانين الفرنسيين، وما قوبلت به من انتقادات شديدة بلغت حدّ التخوين، لم تسحب منه الجنسية الفرنسية التي حصل عليها عام 1927، وظل يقيم في فرنسا حتى وفاته بموناكو عام 1968. ويعتبر كيس فان دونغن، مع فان غوخ، وموندريان، وأوتّو فان ريس، من الهولنديين الذين سجلوا حضورا لافتا في العاصمة الفرنسية، فقد استطاع أن يفرض أسلوبه الخاص، وصار استعماله للألوان وللخطوط التعبيرية علامته المميزة، وكان للرحلات التي قام بها أثرٌ في تميّزه عن رفاقه من الحركة التوحشية، التي غادرها ليتخصّص في فن البورتريه.
مشاركة :