يرجح باحثون وأكاديميون أن تؤثر موجة هجرة اللبنانيين، والتي تزايدت خلال الفترة الأخيرة عقب انفجار مرفأ بيروت، وفي ظل فشل الطبقة السياسية المنقسمة على نفسها في حل الأزمات الاقتصادية والاجتماعية، على التوازن الديموغرافي بين طوائف البلاد وقد يمتد ذلك إلى حدود أكثر قسوة حينما تولد هذه القضية ارتدادات على سياسة توطين اللاجئين. بيروت - لا يجد اللبنانيون ملاذا مع تفاقم الأزمات السياسية والأمنية والاقتصادية والاجتماعية والصحية إلا بحمل حقائب سفرهم وأحلامهم بغد أفضل بعيدا عن وطن لم يتمكن حتى الآن من تأمين أدنى متطلبات العيش الكريم لأبنائه. وهذه المشكلة ستحيل الدولة المأزومة إلى قضية جوهرية تتمحور حول مدى إمكانيتها في الحفاظ على التوازن الديموغرافي. وبينما تتردد معلومات عن إمكانية صدور قرارات برفع الدعم عن المواد الأساسية كالقمح والمحروقات والأدوية وبعض المواد الغذائية بعد انهيار موجودات مصرف لبنان بالعملات الأجنبية، يراقب المتابعون كيف أن البلاد بدأت تنزف طاقتها البشرية بشكل كبير منذ تأسيسها تترافق مع اشتداد الأزمات وانعدام الثقة والأمن بكل أشكاله فضلا عن القلق من المستقبل. ولا شك أن الصدمة التي أصابت اللبنانيين بعد انفجار مرفأ بيروت مطلع أغسطس الماضي شكلت قوة دفع هائلة لهذا النزيف البشري بفعل انعدام الأمل بإمكانية الحصول على أدنى مقومات الأمن والحماية من المخاطر، وما يضاف إليها من الأزمات الاقتصادية والسياسية وضبابية الرؤية لمستقبل كيان بات مهددا بوجوده. ويخشى المراقبون أن يتسبب ذلك المنحى في إثارة قضايا لم يعد يتطرق إليها أحد منذ سنوات ويجعل لبنان تحت مطرقة التغيير الديموغرافي ويتسبب في توزيع جديد لخارطة الطوائف في الدولة. وتشير الدراسات التي تناولت موضوع الهجرة في لبنان تاريخيا إلى أنها نتيجة لتشابك جملة من الأسباب والعوامل السياسية والاقتصادية والاجتماعية والشخصية. كما أن الحرب كانت أيضا دافعا، سواء كانت خارجية مع إسرائيل أو داخلية تتمثل في الحرب الأهلية. ويتفق الباحثون في مجال الهجرة على فداحة ما أحدثه النزيف البشري اللبناني على مرّ العصور وذلك على الصعيدين الاقتصادي والاجتماعي، من انخفاض في الإنتاج، إلى خلل ديموغرافي، وارتهان الاقتصاد للعوامل الخارجية. ورأى الأستاذ الجامعي في مجال التنمية والباحث في شؤون الهجرة بطرس لبكي في حديث مع وكالة الأنباء الألمانية أن الأسباب الدافعة تتمثل بتراجع مداخيل اللبنانيين وانهيار العملة وحجز الودائع من قبل المصارف ومنع التصرف بها بشكل غير قانوني، بالإضافة إلى البطالة التي بلغت أكثر من 40 في المئة بسبب إغلاق المؤسسات وتسريح الموظفين. وتطال الهجرة كافة المناطق والطوائف والطبقات الاجتماعية من اللبنانيين، ورغم عدم وجود معطيات إحصائية دقيقة حول المهاجرين إلا أن أعدادهم بمَن فيهم المتحدّرون من أصل لبناني تقدر بحوالي 7 ملايين، بينما يبلغ عدد المقيمين في البلاد ثلاثة ملايين شخص من بينهم نصف مليون فلسطيني. ومن مسببات الهجرة ضعف القدرة على استيعاب أصحاب الكفاءات أو ضعف المردود المادي لهؤلاء، وعدم الاستقرار السياسي والأمني والاجتماعي والصحي، بالإضافة إلى امتيازات علمية وتكنولوجية تمتلكها البلدان الجاذبة إضافة إلى مناخ الاستقرار والتقدم الذي تتمتع به وإتاحة الفرص لأصحاب الخبرات في مجال البحث العلمي. ورغم أن الدستور اللبناني يؤكد موقف لبنان من مسألة التوطين، إلا أن التغيّر الديموغرافي الذي حصل عبر السنوات الماضية يجعل المسيحيين في مواجهة دائمة مع هذا المشروع لاسيما وأنّ مرسوم التجنيس الذي صدر في عام 1994 كان السبب الرئيسي في الخلل الديموغرافي المسجل اليوم. ويعتقد خبراء أنّ قانون التجنيس أنتج خللا كبيرا بالديموغرافيا في لبنان، فقد تجنس منتصف تسعينات القرن الماضي حوالي 160 ألف مسلم مقابل 40 ألف مسيحي، كما أن تسجيل ولادات جديدة بين المسلمين وهجرة المسيحيين إبان الحرب الأهلية عززا الخلل الديموغرافي. ويمكن تفسير سعي اللبنانيين للحصول على جنسية أخرى بانعدام ثقتهم بالبلد الذي عاشوا فيه، في حين فشلت كل محاولات التغيير ومن بينها الانتفاضة الشعبية التي انطلقت قبل عام من الآن، في ظل أزمات متتالية عصفت بالبلاد. وأفقد استمرار تركيبة الفساد، الذي يعد من الأسباب الأساسية للأزمة الاقتصادية الحالية، وصعوبة تنفيذ التدابير التي يتم اتخاذها حاليا لمكافحة الفساد كالتدقيق الجنائي وقانون مكافحة الفساد، اللبنانيين الأمل بإمكانية التخلص من الطبقة الفاسدة في المدى المنظور، وأفقدهم ثقتهم بالدولة. ووفق ما تقول أليسار حداد التي تعمل في مجال الترجمة، فإن استمرار الصراع الإقليمي في منطقة الشرق الأوسط وغياب أفق الحلول في المدى المنظور، تعتبر عوامل دافعة لهجرة اللبنانيين بحثا عن السلام والاستقرار. ويشير مسح المعطيات الإحصائية للسكان والمساكن الذي أعدته وزارة الشؤون الاجتماعية بين أعوام 1997 و2004 إلى أن عدد المهاجرين بلغ نحو 44 ألف لبناني سنويا بينما ارتفع هذا العدد منذ عام 2005 الى نسبة تتراوح بين 60 و65 ألفا سنويا وبلغ ذروته خلال حرب يوليو 2006. وتسجل المعطيات الإحصائية أن 37 في المئة من الهجرة اللبنانية حصلت بعد عام 1990 وارتفعت نسبة الهجرة منذ بداية الأزمة السورية. ويعتبر البعض أن الهجرة تشكل إحدى ركائز الاقتصاد اللبناني، غير أن خطورتها تتمثل بأن حوالي 46 في المئة من المهاجرين هم متخرجون جامعيون وحوالي 83 في المئة منهم هم من فئة الشباب.
مشاركة :