وداعا يا حليم.. وداعا يا حكيم

  • 10/9/2020
  • 00:00
  • 12
  • 0
  • 0
news-picture

هيمن البيان الرسمي للديوان الأميري الكويتي الذي نعى فيه إلى الشعب الكويتي والأمتين العربية والإسلامية وشعوب العالم الصديقة وفاة صاحب السمو الشيخ صباح الأحمد الجابر الصباح أمير دولة الكويت الذي انتقل إلى جوار ربه على مواقع التواصل الاجتماعي وخصوصاً تويتر وأتى في مقدمة الأخبار المحزنة واللافتة للنظر وصدرت صحف اتشحت بالسواد، لما يتمتع به الراحل من سمعة خليجية وعربية ودولية حسنة فاقت التصورات. جاء وقع الخبر كالصاعقة على رؤوس كل من يعرفون أمير دولة الكويت الشقيقة، وعم الحزن والأسى أسرته ومحبيه وأفراد شعبه ومحيطه الإقليمي والإسلامي والدولي. المصاب جلل والفقيد يعد خسارة فادحة لما كان يمثله من ثقل في سياسته الداخلية والخارجية. مع سيرة عطرة لن تنسى بسهولة داخل بلاده وخارجها. رحيل هذه الشخصية الخليجية القيمة التي امتلكت صفات قيادية وشخصية حباه الله بها في يوم الأربعاء الموافق 30 - 9 في الولايات المتحدة الأمريكية بعد أن عاد إليها مجدداً بعد رحلته السابقة في الثالث والعشرين من يوليو الماضي لتلقي المزيد من العلاج وإجراء الفحوصات الطبية اللازمة. {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} صدق الله العظيم.. إن (البقاء لله وحده) ونحن راحلون في يوم لا يعلمه إلا الله يداهمنا الموت فجأة حين تحين ساعة الوداع.. لا يفرق بين كبير أو صغير.. تاجر أو فقير.. أو ذي جاه ونفوذ أو رجل من عامة الناس.. وتقول الآية الكريمة: {كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَما الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ}. لكن قبل رحيلنا عن هذه الدنيا الفانية لا بد من الاستعداد لذلك المعاد بالتقوى والأعمال الصالحة وهي زاد القلوب والأرواح المطمئنة. ذرفت الدموع واعتصر القلب ألماً على رحيل (قائد العمل الإنساني).. الذي كرّم به من قبل منظمة الأمم المتحدة في التاسع من سبتمبر من عام 2014م. وبفضل من الله ثم بفضله اختيرت «الكويت مركزاً للعمل الإنساني» لذا فإن هذا فخر وتقدير مستحق للأمير وبلاده، وصورة ناصعة يفخر بها كل كويتي وعربي ومسلم. لقد كان أبو ناصر قريباً من الكويتيين جميعاً وكان يعاملهم سواسية كأب مثالي وقائد يعي دوره تجاه وطنه، فداخلياً كانت الإصلاحات الشاملة التي دعمها بنفسه، وحارب الفساد، وأطلق المشاريع الضخمة التي عمت مختلف مناحي الحياة من مدن سكنية، وطرق وجسور ومستشفيات متقدمة واستاد رياضي ضخم وحديث، علاوة على دعم المرأة الكويتية التي عاشت عصراً ذهبياً في عهده حيث كانت هناك رغبة أميرية بمنح المرأة حقوقها السياسية في الترشيح والانتخاب، ودعا أكثر من مرة إلى تبني تلك الحقوق ترشحاً وانتخاباً، وقد سبقت تلك الرغبة مطالبات بإعطاء المرأة حقوقها السياسية كاملة بدأت منذ عام 1971م أثناء التمهيد لانتخابات مجلس الأمة، أما الأبرز خارجياً اتباعه سياسة الاعتدال وعدم الانحياز والدفاع عن قضايا البلاد. يقول سفيان الثوري: «اعمل للدنيا بقدر بقائك فيها، وللآخرة بقدر بقائك فيها».. لقد كان الشيخ صباح الأحمد الجابر الصباح خير من عمل وقدم وضحى في سبيل أعمال تذكره بالخير، ولم يستهن بمثقال ذرة حتى أعلى الهمم وبادر بأعمال الخير والإنسانية طوال حياته فلم يكل أو يمل وسارع نحو هذه الأعمال واحتضنها لحبه الشديد لعمل الخير ومساعدة المحتاجين من يتيم أو يتيمة أو لاجئ أو لاجئة أو حتى جائع أو جائعة.. هذه الصورة حقيقية وتمثل الجانب الآخر لرجل وعميد الدبلوماسية الكويتية والعربية الذي مارسها منذ أربعة عقود مضت. لصباح الأحمد صورة معبّرة لدى عامة الناس وكل من تشرف بمقابلته أو معرفته أو كان قريباً منه سواء في الديوان الأميري أو في المناسبات العامة أو الخاصة أو حتى بين أفراد أسرته (آل الصباح).. كانوا يستمتعون بآرائه السديدة وتوجيهاته الكريمة وبطلته البهية ورؤية وجهه البشوش وابتسامته العفوية التي لم تفارقه سواء في حزن أو فرح. له قلب كبير وسع محبيه والكويت بأكملها. هذه الخصال الفريدة من نوعها أعطت درساً للعالم بما يمتلكه هذا الزعيم الخليجي الفذ الذي رحل عن دنيانا بصمت رغم أنه نصير الضعفاء والمساكين ووصل صيته للقاصي والداني. الوالد صباح رغم حياته المتعبة المليئة بالمشاغل اليومية والمهام الجسام التي حملها على عاتقه لم تثنه عن القيام بواجبه العروبي والإسلامي. إنه كريم السجايا، وله رأي سديد بكل الأحداث والأزمات التي مرت بها الكويت والمنطقة، وكانت له نظرة ثاقبة لحاضر ومستقبل دولته الآمنة.. صباح الأحمد قوي العزيمة وذو عقل راجح وله عديد من الصفات التي لا يمتلكها إلا هو.. من حكمة وحلم وكرم وثقة بالنفس. الراحل هو والد جميع الكويتيين لم يفوت الدقيقة والثانية في سبيل رفعة بلاده وكانت تطلعاته أن تكون في مقدمة الأمم المتقدمة.. لم تتعب قدماه وهو ينافح ويكافح عن أي سوء تجاهها أو من يريد النيل من كرامتها حتى وهو يشارك في المناسبات والمؤتمرات دائماً ما تجد الكويت اسمها حاضراً مرفوعاً في المحافل الدولية وبشرف. لقد قضى أربعين عاماً حاملاً حقيبة بلاده الخارجية حقق فيها كثيراً من النجاحات والإنجازات وله دور مهم في مسيرة العمل الدبلوماسي ومر بمحطات حرجة تخللها مشكلات لبلاده وللمنطقة عموماً أبرزها الغزو العراقي للكويت عام 1990م. ولد صباح الأحمد الجابر الصباح في السادس عشر من شهر يونيو 1929م، وتولى حكم البلاد في أواخر يناير من عام 2006م. بعد وفاة أخيه الشيخ جابر الأحمد الصباح، ورحل إلى الدار الآخرة عن عمر يناهز الواحد والتسعين عاماً. يقول ابن القيم: «إضاعة الوقت أشد من الموت، لأن إضاعة الوقت تقطعك من الله والدار الآخرة، والموت يقطعك عن الدنيا وأهلها.. كان وقت الأمير الراحل كله خيراً في خير ومبادرات حسنة وصلة رحم وإصلاح ذات البين والحرص على الإخوة والتقارب والمحبة والسلام. شارك في مساعدات لدول مزقتها الصراعات وقدم المنح المالية وبسخاء. يحاول دائماً أن يحل الخلافات بين الأشقاء بالحسنى وبالكلمة الصادقة. هذا جزء يسير مما عُرف عن الراحل وهي أعمال بلا شك تقربه إلى الله أكثر فأكثر، فهنيئاً لهذا الجار الوفي لدول الخليج الذي عكس صورة حسنة للكويت الشقيق وأهلها الطيبين منذ عشرات السنين. رغم الحزن الشديد الذي يجتاح الشارع الكويتي هذه الأيام، إلا أن البلاد تعيش في نفس الوقت أجواء مليئة بالتفاؤل والارتياح لميلاد يوم جديد كُتب لصالح تاريخ دولة الكويت العريق. فلقد أدى الشيخ نواف الأحمد الجابر الصباح اليمين الدستورية في مجلس الأمة أميراً لدولة الكويت بعد مبايعته من قبل أعضاء المجلس في جلسة خاصة حسب المادة الرابعة من الدستور، والمادة الأولى من قانون توارث الإمارة على أن «الكويت إمارة وراثية في ذرية مبارك الصباح»، المعروف بـ(مبارك الكبير)، فيما تنص المادة الرابعة من قانون توارث الإمارة على «أنه إذا خلا منصب الأمير نودي بولي العهد أميراً». ليكون بذلك الأمير الرابع الذي يؤدّي اليمين الدستورية أمام مجلس الأمة في تاريخ الكويت. الشيخ نواف الأحمد الجابر الصباح وكنيته (أبو فيصل) يعد الأمير السادس عشر للكويت، وقد ولد في 25 يونيو من عام 1937م فيما يسمى سابقاً (بفريج الشيوخ)، وحالياً (مجمع المثني) بمدينة الكويت، بحسب ما جاء على الموقع الرسمي لديوان ولي العهد. هو شخص متواضع، وقريب من رجال الأمن بوزارة الداخلية، ويمتلك كثيراً من الخبرات العملية الرسمية والوزارية السابقة والحالية، وكان ملازماً للراحل عملياً منذ توليه ولاية العهد في عام 2006م وشارك معه في النهضة العصرية التي تعيشها الكويت الحديثة. يعلم النجل السادس لحاكم الكويت العاشر الشيخ أحمد الجابر الصباح (غفر الله له) تمام العلم أن الثقة التي أوليت له غالية، وأن أعباءها جسيمة والتحديات الراهنة لن تقف حجر عثرة في طريق من امتلك الشجاعة والصلابة والكفاءة ويكفي أنه خريج بيت الحكم من أسرة آل الصباح وسليلها، هذه العائلة التي حكمت الكويت منذ عام 1752م، وكان الحاكم الأول هو الشيخ صباح بن جابر الأول، وحتى الحاكم الحالي الشيخ نواف الأحمد السادس عشر لدولة الكويت، والسادس بعد الاستقلال عن المملكة المتحدة. كل التوقعات بأن الأمير الجديد سوف يسير على خطى أخيه ونهجه البنّاء، بل إنه سيصبح «خير خلف.. لخير سلف». وسوف يضخ المزيد من الديموقراطية وتعزيز المسار السياسي والاقتصادي، أما أن الطريق مفروش بالورود للأمير الجديد فهو مخالف لذلك تماماً فالتحديات كبيرة والمهام جسام، ولكنه يراهن على اللحمة الوطنية وعدم الفرقة ووحدة الصف الكويتي، وهذه جميعها هي الطريق المعبد وغير الشائك الذي سيسلكه الشيخ نواف بكل ثقة مستمداً العون والتوفيق من الله سبحانه ومن الكويتيين أنفسهم دون غيرهم. فرسالتنا إلى أهل الكويت المحبين لبلادهم.. أهل الكرم والشجاعة والوفاء إذا كنتم تحبون صباح الأحمد الصباح فحافظوا على قوة تلاحمكم.. وعلى مكتسباتكم.. وعلى استقراركم الذي ربما تحسدون عليه ممن يفتقدونه.. وعلى أمنكم وبلادكم الآمنة.. وأن تكون مصلحة كويتكم الغالية فوق كل اعتبار. هناك ميزة فريدة يتمتع بها أهل الخليج وينفردون بها على باقي دول العالم بنظام حكمهم المتبع منذ عقود ألا وهو سلاسة الانتقال السلمي للسلطة من الملك أو الأمير أو الشيخ إلى نائبه أو حتى من يتم اختياره ويجمع الكل عليه هذا أولاً. وثانياً وقوف هذه الشعوب مع حكامهم أباً عن جد، وتأييدهم بما يقومون به من إصلاحات أو قرارات أو توجيهات، بل يعينوهم عليها وبقوة. قال تعالى: {وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا} سورة مريم - الآية (95) رحل صباح الأحمد بسيطاً وأسكن بقبره وحيداً ليس معه أحد، متجرداً من الألقاب بلا جاه أو مال ولا حتى أولاد، ترك كل هذا خلف ظهره، لكن عمله الصالح سبقه إلى هناك وانتظر قدومه. ولا يظلم ربك أحداً. إن الحياة حكمة: مدرستها الدنيا، ومعلمها الإنسان، والأيام كتابها، والأمل عنوانها، والموت نهايتها.. وفقيدنا الراحل هو «فارس العمل الخيري» عرف أن العبرة في الخواتيم لدنيا فانية، لا تساوي جناح بعوضة، فالقلوب البيضاء يضيء طريقها نور في ظلمة الليل، وشعاع في صباح كل يوم جديد، والنفس الراضية والمطمئنة لا تهتدي إلا بالإيمان، ولا تؤمن إلا بالرحمن جل وعلا الذي يقول: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً فَادْخُلِي فِي عِبَادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي}. أسأل الله بمنه وكرمه أن يرحم عبده صباح الأحمد الجابر الصباح، وأن يغسله بالماء والثلج والبرد، وأن يثبته عند السؤال، وأن يكون مقامه الفردوس الأعلى من الجنة. الفقيد ثروة لا تقدر بثمن فقدناها جميعاً، لذا توالت ردود الأفعال من القادة العرب والأجانب، الذين نعوا رجلاً قدم أروع الأمثلة في البذل والعطاء، وبلا شك فإن ما شدني بحرارة حول هذا الأمر هو تغريدة خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز آل سعود -حفظه الله- بما حوته من شعور صادق مع ألم وحزن طوق مقامه الكريم بقوله: «فقدتُ برحيل الشيخ صباح الأحمد الصباح -رحمه الله- أخاً عزيزاً وصديقاً كريماً وقامة كبيرة، له في نفسي مكانة عظيمة وتقدير يستحقه. نفتقده كما يفتقده شعبه، وسيخلده التاريخ إذ كرّس حياته لخدمة بلاده وأمتيه العربية والإسلامية. تعازينا لأهلنا في الكويت. {إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ}.

مشاركة :