رحيل صادق جلال العظم فاجعة تُضاف إلى ركام فواجعنا، وحدث ينبغي أنْ ندرك خطورة ما يتركه من أثر، لاسيما وأنّ أفق الصراع أكثر حاجة لقوة عاقلة وفاعلة تدرك خطورة ما يحوطنا. العربعلي حسن الفواز [نُشرفي2016/12/18، العدد: 10489، ص(11)] قد يضعنا رحيل صادق جلال العظم أمام سؤال الفقد، وهو سؤال إنساني وحميم، لكن الأخطر أن يكون هذا الرحيل سؤالا في الغياب وفي الموت كمدا. موت العظم وفي ظل هذا الظرف التاريخي الفارق والساخن يعني الكثير، فهو رحيل لأحد أبرز حرّاس العقل، وعند عتبات عالمٍ يحتاج كثيرا للعقل، إذ أخذته الحروب والكراهيات إلى مدارات من الرعب الثقافي والسياسي والقيمي، وبعد أن صرنا إزاء الموت وكأنه بعض يومياتنا، حيث الغياب والعطب، وحيث عطالة الأحلام وخلوّ المسافات الآمنة، وحيث يأخذنا الاستبداد والخوف إلى ما لا نشتهي. موت صادق العظم ليس يافطةً عابرةً في تلك اليوميات المفجوعة، إنه عنوانٌ واقعي جدا لمحنة العقل العربي وهو يفقد رموزه، ويتوه بعيدا في المنافي بحثا عن عقلنة قابلة للنقد والاستعمال، لذا يبدو هذا الموت وكأنه فاجعة، أو كونه احتجاجا أو رفضا، فمنذ أنْ كتب “نقد الفكر الديني” و”النقد الذاتي بعد الهزيمة” وهو يجاهر بمسؤولية “النقد الاحتجاجي” بوصفه وعيا بالأسئلة، بالقلق المعرفي والتاريخي، والذي يدعو من خلاله للفحص والمراجعة، وإعادة قراءة “التاريخ” والذات والخطاب والأيديولوجيا ولمؤسسة السلطة والجامعة. هذه القراءة تشبه المراجعة، فهي تحريضٌ على الوعي، وتبيينٌ لها، كونها صارت هَمٌّا ثقافيا كبيرا، من الصعب جدا النأي عنها، والهروب من مسؤولياتها، فما يحدث اليوم في سُوحنا القومية يُثير رعبا فادحا، ويُربك الكثير من خطواتنا، ويجعل السؤال الثقافي أكثر التباساً، وأكثر إرباكا إزاء ما يجري، إلى حدّ أنّ البحث عن وعيٍ ضدّيّ صار نوعا من المغامرة، فالحروب والثورات والاحتجاجات ملأت المشهد القومي. ورغم أنها خرجت عن توصيفها القديم، إلّا أنّ تاريخ الطغيان و”النقل” صار أكثر رعبا وأفقدها روح الأنسنة، ووضعها عند نوعٍ مرعبٍ من الإكراهات، تلك التي أفقدت “العقل” مشروعه النقدي والمعرفي، وحيث تواصل الحكومات والجماعات لعبتها الدامية والطاردة في عزل هذا العقل، وفي تغريب وعي “الجمهور” تحت يافطات الجوع والجهل المقدس والخوف والشعبويات الغاوية. رحيل صادق جلال العظم وسْط هذه المتاهة يجعلنا أكثر خوفا من عطالة العقلانية، ومن أن نجد أنفسنا أمام سلسلة من الفقدانات، ليس للقيم الثقافية المعرفية والنقدية، بل من القدرة على الدفاع عن المستقبل، وعن الوجود، فتغوّل الرعب لم يعد حكوميا، بل صار جزءا من منظومات فكرية لجماعات وضعت العقل في “القفص” بوصفه كائنا مشبوها، وبوصفه مقولاته ومفاهيمه محاولات لإبانة الكفر الثقافي والمعرفي، وهو ما كان الراحل العظم قد استلهمه نقديا، دفاعا، ووعيا، ورؤية واضحة لمشروعية المثقف العضوي، ولجدّته في الكشف عن كل مظاهر الخيبة والعجز والفشل، فالكتابة تعني هنا المواجهة، وتعني هنا “الوعي الشقي” وتعني أيضا حيازة القدرة على أنْ يكون النقد ممارسة في نقد المؤسسة، وإشهارا عن هذا الوعي والدفاع عن أسئلته. حارس العقل سيرة العظم حافلة بروح المغامر الباحث في الفلسفات عن أهمية العقل، وعن فاعليته في أنْ يكون حارسا للوجود، والمعرفة، وبقدر ما كانت مغامرته الأولى التماسا عند العقلانية الأخلاقية عند إيمانوئيل كانط، فإنه أدرك خصوصية أن يمارس هذه الوظيفة قريبا من هواجسه القومية، تلك المُصابة بفوبيا التاريخ والمقدس والخرافة، إذ أدرك عبر سجالات وأسئلة في النقد والاستشراق “معكوسا” و”ذهنية التحريم” الكثير من الإشكالات التي تخص مفاهيم السلطة والتديّن والديمقراطية والحق، والتي وجد نفسه إزاءها وكأنه الأكثر تماهيا مع وظيفة “حارس العقل” الحامل لوعيه الشقي، ولعلمانيته المؤنسنة، والتي لا تعني تقاطعا مع “الدين” بقدر ما تعني النزوع للتصدّي العقلاني والنقدي لكل تعقيدات الصراع الاجتماعي والسياسي، والعمل على معاينة أسئلته بمنظور تحليلي يدرك الأسباب الخفية للعجز، ولتغوّل مظاهر التخلف وصعود الاستبداد والطغيان السلطوي والأيديولوجي والأصولي. حارس العقل هي الوظيفة المُضنية والخطرة، وربما هي وظيفة المجاهرة بالكشف والتعرية والفضح، إذ تجد الأنتلجنسيا العربية نفسها أمام رعب النقل والإخبار في مدوّنات التاريخ والمقدس، وأمام رعب المسكوت عنه السلطوي والتحريمي، وهو ما يجعل هذه الوظيفة أكثر استشرافا للمواجهة، ليس لأنها الوظيفة الضد، بقدر ما هي محاولة في اصطناع العتبة الساخنة، أو كما يُسمى بالعلم العسكري بـ”الحجابات” حيث المواجهة، والتلقّي، وحيث الصدمة، والاشتباك، وحيث فكرة الأضحية، إذ لامناص من أن يجد المثقف نفسه أمام رهابات طاعنة من تاريخ مسلّح، وأمام زمن قومي يجدد لعبة أوهامه وأضحياته عبر الهزائم الثقافية والسياسية، وكأنه يستعيد قدره المباح منذ هزيمة 1967 والى انتكاسات الثورات العربية في ربيعها الدامي. رحيل صادق جلال العظم فاجعة تُضاف إلى ركام فواجعنا، وحدث ينبغي أنْ ندرك خطورة ما يتركه من أثر، لاسيما وأنّ أفق الصراع -اليوم- أكثر حاجة لقوة عاقلة وفاعلة تدرك خطورة ما يحوطنا، ووسط تحولات وصراعات لها نُذرُها وشررها، ولها ضحاياها الذين باتوا أكثر رعبا وهم يعيشون مراثي العقل، وموت أسئلة نقده ومراجعاته، تلك التي تحدث عنها الراحلون محمد عابد الجابري وجورج طرابيشي ومحمد أركون، وها هو العظم يلحقهم إلى عتبة الموت احتجاجا على لعبة الغياب القاسية. كاتب من العراق علي حسن الفواز :: مقالات أخرى لـ علي حسن الفواز وداعا أيها المفكر النقدي وداعا يا حارس العقل, 2016/12/18 غادة السمان تتأمل وجهها المسافر في مرايا أنسي الحاج, 2016/12/09 السبيليات سيرة امرأة تحلم بزوج غائب في الحرب, 2016/12/07 عالم الإنتلجينسيا العراقية المشوهة في روايات علي بدر, 2016/12/01 رواية ترصد حكاية التفكك الأسري في حي مغربي, 2016/11/18 أرشيف الكاتب
مشاركة :