يقول المطران يوسف توما، رئيس أساقفة كركوك والسليمانية للكلدانمنذ طفولتي علّمني أهلي ألا أكون "غشيم" أي ساذج يُضحَك عليّ، ويؤخذ مني ما هو لي، فتربّينا على الخوف والحذر من الآخر والتوجّس الشديد لئلا يغلبنا أحد، كل واحد عليه أن يخرج "بساطه" (جلايته بالمصلاوي) من الماء، مهما كان ثقيلا، ولأن السوق والشارع عبارة عن ساحة حرب تكثر فيها الوحوش المتربصة بين آكل ومأكول، غالب ومغلوب قيل هذا المثل: "إن لم تكن ذئبًا أكلتك الذئاب"، ثم يسردون عليك ما حدث لفلان أو فلانة! هذه العقلية قديمة جدًا في شرقنا، بحيث جعلت كاتب الأسفار الأولى من الكتاب المقدس يدرجها منذ البداية، حين جعل أبوينا الأولين يظنان أن الله يريد "خدعهما"، ففقدا صداقته وسقطا، أليس بعض الظن إثمًا؟كانت القصص "الكتابية" تشوقّني منذ الصغر وفي سن 15 سنة قرّرت قراءة الكتاب المقدس كله، في العطلة الصيفية، كي أربط بين قصص العهدين القديم والجديد، ولاحظت عكس ما قلت في الديباجة حيث يعطي يسوع تلاميذه درسا آخر فيقول لهم: "ها أنا أرسلكم مثل الخراف بين الذئاب، فكونوا حذرين..." (متى 10: 16)، مسألة أخلاق المؤمنين تأتي عكس العقلية السائدة، وهذا يستحق التفكير والتحليل. فشجرة الخير والشر في وسط جنة عدن كانت رمزًا واضحًا تقول بأن كل تنظيم لحياة الإنسان يعتمد التخطيط حول مبادئ سليمة أساسية. وإن كنا قد ولدنا لنكون أحرارا - وهذا تتمناه كل ثقافات العالم، لكن يوما ما ستدخل حريتنا في امتحان مثل أبوينا: إما أن أكون ذئبا للآخر أو اختار وداعة الخروف، وهذا الاختيار محيّر: لماذا اختار يسوع أن يكون "حمل الله الذي يحمل خطيئة العالم"؟ ولم يعمل كالبقية جيوشا من الذئاب بالقسوة والصراع ليأخذوا حقهم؟ لعل هذا الاختيار أصعب امتحان في الكتاب المقدس وهو يشكك الكثير من المؤمنين.منذ البدء تضع شجرة معرفة الخير والشر كل إنسان، فردا كان أو جماعة، أمام اختيار صعب، كيف أعيش بوداعة بين الذئاب؟ هل عليّ أن أرضيهم وأداهنهم وأتنازل لهم دائما؟ ماذا إن أرادوا أن يأكلوني! خيار يقع في إطار يتصل بجذور قديمة أعطت لها المجتمعات مكانة في أدبياتها بدأت بوضع الشرائع منذ أورنمّو (2030 ق.م) ثم حمورابي (1772 ق.م) الذي يقول في مطلع قوانينه أنها "لتحقيق الخير لشعب بلاده وليهلك الفاسد والشرير حتى لا يطغى القويّ على الضعيف"، أي لا على الحذر والخوف بل للسعادة كقول القديس توما الاكويني (1225 - 1274): "يبحث الجميع بلا استثناء، عن تحقيق الخير العام، حتى عندما يقترفون الشر. والخير العام هو ما يجلب السعادة". لكن أين الخير العام إن كانت العلاقات بين غالب ومغلوب وآكل ومأكول؟ هل سعادة البعض على حساب تعاسة الآخرين؟ وهل السعي لسعادة الجميع حلم ووهم؟هذا هو الفرق بين الحضارة والمجتمعات البدائية التي في مخيلتها "شريعة الغاب"، لذا كان تطور المجتمعات باتجاه السلام والتنمية بعد فترة الثورات، فجاءت نظريات مثل قبل 170 عاما كارل ماركس حاولوا تطبيقها وفق الاحتياجات الحقيقية للغالبية لكن الفشل كان في التطبيق. بالرغم من كل الجهود في شق الطرق واستصلاح الأراضي غير المستغلة، وبناء عمارات ومساكن فاخرة، لكن سرعان ما عجزت تلك النظريات أمام تزايد سكان المدن وتراكمهم على الأطراف فقامت الضواحي الفقيرة تتراكم عليها النفايات وبلا خدمات.هكذا تأرجح الناس بين منطق الاشتراكية والليبرالية الرأسمالية فغلبت الأخيرة، وأصابها أيضا أشكال الغرور بدأ كما أذكر في عام 1969 حين قررت الولايات المتحدة أن يمشي أمريكي على القمر، بتكلفة 6 مليارات دولار أمريكي (لمجرد كسر أنف الاتحاد السوفييتي الذي سبقهم إلى الفضاء). لكن كلتا الدولتين العظمَيَين لم تفكرا بملء بطون الملايين من أطفال أمريكا اللاتينية وأفريقيا وآسيا بالطعام الضروري والتعليم والصحة. أين الأهم: غزو الفضاء أم إطعام البشر؟في ليلة بعام 1969 سهرت لأتابع على الراديو نزول نيل ارمسترونغ ومشيه على القمر، كنت في العشرين من عمري، عقبها سفرات أخرى إلى القمر والفضاء كلفت الكثير، فأصبح سوق القصص يعطى الأهمية للأحلام والأوهام "تقدمية" لدى بعضهم في الشرق وعملية (براغماتية) في الغرب، ووقفت بقية العالم حائرة لمن تميل فصرنا بعيدين جدا عن قيم الأخلاق التي تمناها أجدادنا أو انحسر التضخم فصار كل شيء يقاس بالخدمات الصحية والكهرباء وكأننا نستعطي حقنا. هكذا تعقدت الأمور عالميا بعد سقوط الاتحاد السوفييتي عام 1989 وسيطرة الليبرالية. الأخلاق حاولوا وضعها في "شرعة حقوق الإنسان" (1948) لكنها بقيت كمجرد شعارات للسذج، تعمل تماما مثل "البطاقات الخضراء green labels" في المحلات التجارية لتسويق منتجات خاصة مشبوهة، فالدعاية تأتي من قبل الشركات الكبرى هي التي تدمر البيئة في العالم الفقير خصوصا. كما هو حال شركات الطاقة والكيمائيات التي تلوث المياه والهواء، ما أدخلنا في أضرار هائلة، يقول بعض علماء البيئة بأنها تضع مصير البشر والأرض على المحك فنصير مثل كوكب المريخ تصحّر في كل مكان...منذ بداية عام 2020 واجه العالم فايروس كورونا (كوفيد-19) زاد في كشف هشاشة الكل وخصوصا العمليين البراغماتيين من يريدون حصة الأسد في هذه الحياة. هذه السنة 2020 سارعت في كشف خطورة "الذئب" على الجميع فهو يريد أن يأكل فقط ويقال إنه لا يكتفي بالأكل بل عندما يدخل الحضيرة يقتل عشرة أغنام ليأكل واحدة فقط، هذا ما تفعله العولمة الليبرالية والتجارية بدل تحسين حياة الناس والتفكير بمستقبلهم وأولادهم. كل الأزمات نتيجة مضاربات المال والعقارات ورأينا العجب منذ 1929. في حين يبقى ثلث سكان المدن الكبرى في الدول النامية يعيش في مدن الصفيح وفي أحياء تفتقر إلى أبسط مقوّمات الحياة، أي هناك ملايين العائلات تعيش في أقل من 25م2 في حين عائلات غنية لديها منازل وشقق مغلقة أغلب أشهر السنة لا يتم فتحها، أصحابها يأتون خلال العطل فقط.لقد كشفت أزمة جائحة كورونا وكل ما دار في هذه الأشهر العشرة منذ نهاية 2019، الكم الهائل من اشاعات ودعايات وتصاعد الغضب بأشكاله ما يحتاج إلى جيش من العلماء والمحللين لفهم ما تفعله الأوهام فينا، جماعات وأفراد، وأن الخطر الحقيقي لم يكن الفايروس بل فساد أخلاقي متراكم بني على أخلاق "الذئاب". القلق في كل مكان لا على الفقراء بل على نظام أخرق اعتدنا عليه، صار للأسف، يدفع البعض للحنين والعودة إلى الوراء إلى قيم فاشلة لم تنجح قط، وهذا ما يلوث السياسة ويجعل استغلال الشركات الهائلة أكبر. كل يوم نكتشف الوجه قبيح للذئاب: العنصرية لدى الشرطة في قتلهم جورج فقط لأنه أسود في أمريكا، انفجار ميناء بيروت يوم 4 آب 2020 وأشياء أخرى دفعت الشباب في كل مكان إلى النزول للشارع: كفاية...هل يكفي أن أقرأ على منتوج الشوكولاتة أو الشاي بأن صناعته "لم تستغل الأطفال في أفريقيا وآسيا"؟ الفرق سيأتي من قدرتنا على تشخيص أمراض صارت عالمية، بيد منظمات غير حكومية لحقوق الإنسان وليس بيد السلطات السياسية ولا الحكومات التي تبدو عاجزة كما في العراق، فالذين ينادون بالشفافية وكشف المستور عن الفساد والسرقات يكشف عجز الدول في توفير مقومات الحياة للمواطن. إن أكبر خطيئة هي السلبية في التفكير وترك الأمور لمن يجرّ الخيوط، كذلك من يضع يده على كل شيء، وغريب أن الأمور متشابهة في كل مكان تقريبا، وهذا ككل يسمونه "الإرهاب"، إنها بدأت بقصة المافيات كانت في بعض الدول ثم أصبحت دولية معولمة.يبدو أن توجّه العالم (في بلادنا ومنطقتنا خصوصا) في مسار غير منطقي حيث نلاحظ سهولة الانصياع للتفكير القومي أو الديني أو المذهبي، لا حبًا بها كآيديولوجية أو قيم وإنما يتبنونها "حيلة رزق"، كسبٌ سهل لعيش أفضل من البقية، كمَثَل الوكيل الخائن في الإنجيل الذي قال نفسه: "ماذا أعمل؟ فإن سيدي يستردّ الوكالة مني، وأنا لا أقوى على الفلاحة وأستحي أن أستعطي..." (لو 16: 1-8)، مارس الفساد ليضمن مستقبله، إنها التوفيقية (amalgam & syncretism)، نمارسها في كل مكان بمثابة زواج شرعي بين الفساد والانفلات من العقاب. لكن لحسن الحظ، في أعماق البشر –الشباب خصوصًا– يوجد إحساس بأن الله لا يقبل والوطن يستحق الأفضل، وقد حان الوقت لقيام نظام عادل ينبذ بوضوح الفساد والانفلات من العقاب، ولا ننتظر يوم القيامة والدينونة العظمى لمحاسبة المسيئين، فالحساب هو اليوم على يد جيل جديد لم يعد يريد الانقلابات والثورات الدموية ولا يقبل باستغلال الذئاب، الكل سيحاسب: من أين لك هذا؟ ليتأسس عالم على الشفافية والمصداقية، ولا يعود أحد يقول لي: "أنت غشيم، إن لم تكن ذئبا أكلتك الذئاب"، على كل من يعتدي أن يأخذ عقابه، وسينقرض جيل الذئاب وكل آكل لحم أخيه وسيغلب المسالمون محبو اللاعنف. لعل هذه تبدو أحلاما بعيدة المنال اليوم لكني أرى بوادر كثيرة في مناطق كثيرة من العالم تحققت وهي عندنا أيضا تلوح في الأفق عندما نرضى بأن تجمعنا إنسانية مشتركة وأرض وطن واحد وهذا يكفي.
مشاركة :