كان لآلة العود حضور بارز في الحضارة الإنسانية منذ الأزل، فوجدت في المعابد والقصور وكانت أبعد من آلة موسيقية تثير في النفس مزاجا طيبا، بل كانت ملاذا للحكماء والفلاسفة الذين كانوا يضعون أفكارهم على مقاساتها الموسيقية. وفي عصرنا الحالي، يحاول بعض العازفين المحترفين إخراجها من حالة الجمود التي عانت منها طويلا بتبني نظريات عالمية جديدة في طرق التأليف أو العزف عليها، منهم عازف العود السوري الشاب كنان أدناوي. دمشق – يتبنّى الفنان كنان أدناوي، عازف العود السوري، رؤية بعيدة عن النظرة التقليدية التطريبية التي ترتسم في أذهان الناس عندما تحضر آلة العود، فهو من الموسيقيين الذين يرون أن لها عالما آخر يتميّز بملامح روحية وصوفية عميقة تجعل من هذه الآلة وسيلة للسفر بعيدا في هياكل التاريخ ومفردات المكان، والتي تستطيع بالتوظيف الصحيح أن تقدم منطوقات حضارية موسيقية غاية في القدم والأهمية. ولآلة العود عند عدد من العازفين المحترفين العرب مكانة خاصة، وتأصيل ذلك يأتي من خلال العديد من الإشارات التي تؤكّد أهميتها ومكانتها عند العرب القدماء. منها ما جاء في كتاب لا يُعرف من ألّفه حمل عنوان “كشف الهموم والكرب في شرح آلة الطرب” يبيّن فيه مؤلّفه أن العود ينقسم إلى أنواع حسب عدد الأوتار التي يحتويها، فمنها عود ذو اثني عشر وترا ومعشّر ومثّمن، والعود ذو الاثني عشر وترا حكمه على حكم البروج الاثني عشر، وعلى حكم الأنغام الاثني عشر، والاثني عشر مقسومة على حكم الستة أوزان. فلكل وتر منها ثلاثون عرقا، وهي مقسمة على الأنغام الدائرة في الفلك، وله حكمه في الساكن والمتحرّك. أما إذا كان العود معشّرا فحكمه يختلف وأول من صنعه الفارابي، فيخصّ كل وتر ستة وثلاثين قسما، ولها حكمها في الساكن والمتحرّك، وللعود المثمّن أحكامه في الساكن والمتحرّك، وقسمة الأنغام على أوتاره كسابقيه، وللعود فرخة بستة أوتار تسمى (الششتة) وهي الطربرب، وحكمها على حكم الأوزان الستة. ورشة عمل ما يميّز الخطاب الموسيقي الذي يقدّمه كنان أدناوي أنه في سبيل الوصول إلى تحقيق هذه العلاقة الجدلية الهامة، فإنه يجمع بين الموسيقى الكلاسيكية الشرقية العربية وأنماط التقنية الموسيقية العالية والعصرية التي امتلكها من خلال دراسته إياها في الولايات المتحدة. وهو يعتمد على الطريقة التي تخرج من العازف كامل طاقته الإبداعية، والتي تأتي بعد معرفة العازف لآلته بشكل كامل ومعرفة قدراتها ومكامن القوة التي فيها. وهذا ما يعني بالضرورة انطلاق العازف في فضاءات جديدة غير نمطية واسكتشاف عوالم فنية جديدة في آلة العود. والطريقة التي يعمل عليها العازف السوري لا تقبل التأطير في مجال واحد وشكل متفرّد بل تسعى لمواكبة أحدث أساليب العزف الموجودة في كل العالم، وتسخير ذلك في تطوير أشكال العزف في الموسيقى العربية. ولذلك فهو يؤكّد دائما على أن العازفين العرب في الوقت الحالي صاروا أكثر حرفية في أدائهم وصاروا مواكبين لطرق جديدة في العزف. الاستفادة من المخزون الغنائي الذي يحفظه الناس في وجدانهم الجمعي، جسر الوصول إلى تطوير الموسيقى العربية بعد إنهاء مرحلة الدراسة العليا في الولايات المتحدة عاد أدناوي للعمل في وطنه سوريا، وكان أول ما قام به فور عودته، أن قبل دعوة عميد المعهد العالي للموسيقى بدمشق عدنان فتح الله لإقامة ورشة عمل لطلاب المعهد العالي للموسيقى امتدت على يومين. عرف من خلالها الطلاب بعض ملامح النظريات الحديثة في مجال التدرّب على العزف الحديث. وكان الهدف من هذه التجربة تعريف الطلاب في كل سنوات الدراسة الخمس على طرق جديدة في عزف مقطوعات تراثية عربية أصيلة كالسماعيات واللونغا والارتجال، الذي خصّص له أدناوي بحثا أكاديميا ذهب فيه إلى ضرورة أن يكون العازف عارفا ومتمكنا من المقامات الموسيقية وطريقة الانتقال فيها حتى يتمكن من تقديم عزف احترافي عالي المستوى. الاستفادة من الذاكرة تعتمد فكرة كنان أدناوي في سبيل التقريب بين النظريات الحديثة في العزف المعتمدة على التكنيك العالي وبين الموسيقى التراثية العربية، على الاستفادة من المخزون الكبير الذي يحفظه الناس في وجدانهم الجمعي. فمع احتفاظ الناس في ذاكرتهم بالعشرات من التواشيح والأهازيج والقصائد والقدود وأشكال الموسيقى المختلفة من سماعي وبشرف ولونغا وغيرها، فإنها تشكّل جسر تواصل بين الناس وهذه الطرق الجديدة في العزف. وبحكم أن الناس يعرفونها فسيكونون متآنسين معها حتى من خلال عزفها بطرق جديدة، ولكي لا تحمل هذه التجربة الأولى من نوعها حالات فشل في داخلها، وجب أن يأتلف الناس مع الشكل الجديد لهذه الذاكرة مع استمرار الوقت وتكريس التجربة والتي ستغدو بعدها عادية ومقبولة، وهو ما يراهن عليه أدناوي في رؤيته لتطوير العزف على الآلات الموسيقية العربية. ولذلك كثيرا ما تظهر في أعماله إلى جانب المؤلفات الحديثة التي يقدّمها مثل: “وعود” و”مدى” و”تحية” و”سماعي كرد” و”الطريق إلى دمشق”، مقطوعات تراثية أصيلة مثل: “هالأسمر اللون” و”البنت الشلبية” و”لما بدا يتثنى”. ويقول أدناوي “لعلّ اهتمام العازفين المعاصرين بآلة العود يعود إلى تجذّرها في تراثنا العربي. فهي موغلة في القدم، ويرجع زمن وجودها إلى 2500 عام قبل الميلاد، حيث وجدت في بلاد ما بين النهرين في بابل وآشور، ووصلت الشام حوالي 1800 قبل الميلاد ومنها انتقلت إلى مصر في القرن السادس عشر قبل الميلاد. ثم انتقلت عبر رحلة طويلة ومتشعبة إلى الفرس والترك وغيرهما حتى وصلت أوروبا”. ويسترسل العازف السوري “آلة العود كانت ملازمة للحكماء والفلاسفة، وعلى مقاساتها المساحية والموسيقية كانت توضع نظريات الفلسفة. كما كان لها حضور قوي في المجالس الدينية. وفي العصور اللاحقة تحوّلت إلى آلة للطرب والغناء خاصة في القصور، إلى أن جاء زرياب ودفع بها بقفزة تطويرية نحو الأعلى وزاد الوتر الخامس عليها، لتتحوّل تدريجيا إلى آلة مصاحبة للغناء لا تظهر وحدها”. وفي الأثناء جاء فريق من العازفين الذين وجدوا فيها مساحات للتأمل، وابتعدوا فيها عن الغناء، وصارت صاحبة حضور متفرّد. فظهر في العراق الشريف محيي الدين وجميل بشير ومنير بشير، ثم تبعهم جيل آخر كان منهم العازف الشهر نصير شمة الذي أسّس بيت العود العربي في القاهرة، وشربل روحانا من لبنان وحديثا كنان أدناوي من سوريا. وكنان أدناوي، ابن عائلة فنية تعزف الموسيقى وتحترفها، كان أول من علمه العزف شقيقه الأكبر، ثم تابع مسالك الاحتراف ليتخرّج من المعهد العالي للموسيقى بدمشق ثم تابع دراسته الموسيقية العليا في الولايات المتحدة مختصا في مجال الارتجال المعاصر. حاز على عدد من الجوائز العالمية في بيروت وتونس، كما شارك في حفلات عديدة في سوريا والولايات المتحدة وغيرهما.
مشاركة :