من الاسم الأسطوري لأقدم مغنية معروفة في التاريخ كانت تصدح بصوتها في جنبات معبد “عشتار” بمملكة أوغاريت على الساحل السوري، اختار المؤلف الموسيقي السوري شفيع بدرالدين اسم أوركسترا “أورنينا” التي تعمل على تقديم التراث الموسيقي السوري والعربي عامة بتوزيع موسيقي خاص يتقبلّه الغرب والعرب على السواء. هنا حوار مع مؤسّس الفرقة الموسيقي السوري شفيع بدرالدين. دمشق - في الألف الرابع قبل الميلاد، ازدهرت مملكة ماري على ضفاف نهر الفرات، وأوجدت لنفسها حضارة شامخة خلّدت في التاريخ. وفي هذه المملكة التي تقع الآن في منطقة تل الحريري في مدينة دير الزور السورية، عاشت فتاة نذرت نفسها للغناء في المعابد اسمها أورنينا. ويعتقد أنها كانت أول مغنية في التاريخ، وتشهد اللقى الأثرية التي وجدت في المكان أن للموسيقى في هذه المملكة مكانة هامة، خاصة الموسيقى الدينية، حيث وجدت في المعابد فرق موسيقية تتألف من ستة وعشرين عازفا، وهذا ما قاد إلى الاستنتاج بحثيا أن تلك الفرق كانت تعرف التدوين الموسيقي ومفهوم الدوزان الذي هو من أهم معايير العزف الجماعي الاحترافي. ديمومة الفنون في استلهام لروح تلك المغنية التي تجاوزت بفنها عصورا وحضارات، يجتمع في لوكسمبورغ فريق من الموسيقيين السوريين بقيادة المايسترو شفيع بدرالدين متعاونين مع عدد من زملائهم الفرنسيين لتأسيس أوركسترا أورنينا، التي تحاول في أعمالها تقديم الموسيقى الشرقية التقليدية ضمن إطار حداثي يزاوج بين روح التراث في الموسيقى الشرقية المقدّمة والأشكال العلمية الحديثة في آليات العرض الأوكسترالي، وهي التي انطلقت أعمالها في العام 2016 وحقّقت حضورا قويا في أوروبا. في حوار لـ”العرب” مع مايسترو الفرقة شفيع بدرالدين، أجاب عن سؤالنا حول السبب في اختيار اسم أورنينا للأوركسترا وعن الآفاق التي يحملها من خلال ذلك، فقال “اسم أورنينا بات معروفا من قِبل الكثير من الناس لاسيما السوريين، فهي مغنية معبد عشتار وقد اجتاز هذا الاسم، وتاليا تلك الشخصية (أورنينا) أكثر من 3500 عام رغم دمار أوغاريت وتعاقب العديد من الممالك والحروب على تلك البقعة من الأرض. ومن هناك اتخذناها رمزا لديمومة الفنون والثقافة باختراقها للعديد من الحضارات المعبّدة بالحرب والدم والنار”. شفيع بدرالدين: "أورنينا" تسعى إلى إعادة قراءة الموسيقى العربية وفق رؤية حداثية، تؤسّس لشكل موسيقي شرقي معاصر شفيع بدرالدين: "أورنينا" تسعى إلى إعادة قراءة الموسيقى العربية وفق رؤية حداثية، تؤسّس لشكل موسيقي شرقي معاصر ويضيف المايسترو بدرالدين مبيّنا مدى التكامل والاختلاف ما بين فرقة تقاسيم التي سبق وأن أسّسها عام 2003 وأوركسترا أورنينا، قائلا “في الواقع لا يستوي الربط كثيرا بين فرقة تقاسيم التي أسّسناها في مدينة ليون الفرنسية عام 2003 وبين أوركسترا أورنينا السورية المؤسسة في لوكسمبورغ عام 2016، قد يصح القول إن تقاسيم ربما كانت بمثابة إثبات فكرة إمكانية تشكيل فرقة موسيقية شرقية بالتعاون مع موسيقيين غربيين في أوروبا، وهذا أمر لا يستهان به، طبعا”. وجمعت فرقة تقاسيم منذ تأسيسها عددا من الطلبة السوريين القادمين لإكمال دراستهم الموسيقية في كونسرفاتوار ليون بالتعاون مع زملاء فرنسيين، حيث كان هدفها المباشر تقديم نفسها عبر الموسيقى التقليدية السورية والعربية، قد تحقّق لها النجاح المرجوّ. ويسترسل المايسترو السوري “حين بدأت لاحقا بالتحضير لتشكيل أورنينا، كانت العوامل الموضوعية، إن كان على المستوى الفني الحرفي أو على المستوى الاجتماعي السياسي للعالم العربي عامة وللسوريين خاصة قد تغيّرت كثيرا. فمنذ نهوض الشعب السوري بوجه الحكم المتسلط الذي شتّت السوريين في بقاع الأرض، برز دور هام للفنانين إن كانوا من الهواة الجيدين أم من المحترفين، حيث بادروا سريعا بتقديم العروض الفنية وتقديم الموسيقى السورية لجمهور أوروبي يجهلها في العموم، هذا النشاط الذي أصفه دائما بتبادل المعرفة، هو نوع من تقديم النفس بأرقى الوسائل التي أوجدتها البشرية”. ويؤكّد بدرالدين أن حالة التعاطف التي كانت سائدة في المجتمع الأوروبي حينها، ساعدت كثيرا على احتضان تلك الأنشطة وأصحابها. موضحا “شخصيا، كنت ولا أزال متابعا جيدا لكل ما يقدّمه السوريون، وأعتبر أنه، وإن كانت هناك سويّات فنية متواضعة في بعض الأحيان، إلاّ أن الأثر الجمعي لهذه الحركة محمود بالعموم وأن اصطفاءً طبيعيا للجودة الفنية لتلك الموجة آت لا محالة”. رشا رزق من الأصوات السورية التي شاركت الفرقة حفلاتها الأوروبية رشا رزق من الأصوات السورية التي شاركت الفرقة حفلاتها الأوروبية من هناك أتى قرار شفيع بدرالدين بتأسيس فرقة موسيقية محترفة بالمعنى الفني والإداري، وقد كانت نواة العمل حينها مؤلفة من قلة قليلة من أصدقائه في لوكسمبورغ، وبالتواصل مع أصدقاء موسيقيين ومغنيين في أنحاء أوروبا والعالم قام هو بنفسه بالمهام المتعلقة بالجانب الفني والإشراف العام وأوكل المهام الإدارية لصديقه رياض طه وللموسيقي ناظم بدرالدين وآخرين. ويوضّح “كان هدفنا منذ البداية أن نقدّم أنفسنا كمحترفين قادرين على تقديم عروض موسيقية على مستوى رفيع خارج حالة التعاطف السائدة آنفة الذكر، هذا على المستوى الفني، أما على المستوى الإنساني والوجودي وضمن الظرف السوري فقد كنا نشعر بضرورة القيام بتحمل مسؤوليتنا كمدنيين سوريين من خلال تقديم صورة مختلفة عن الصورة التي كادت أن تصبح تقليدية، والتي كان الإعلام الغربي والعالمي يقدّمها عن الحالة السورية وعن السوريين، إذ انحصرت في مشاهد الدمار والحروب والمتشدّدين”. من هناك بدا أن السوريين هم فريقان من الأشرار، يتقاتلون في ما بينهم، وغابت عن الشاشات والصفحات أخبار المدنيين الذين كانوا ولا زالوا يقومون بأعمال إنسانية عظيمة. حينها أراد بدرالدين وصحبه الإضاءة على ذلك الجانب المدني المدفون عنوةً، عبر أدواتهم التي يتقنونها، ألا وهي الفن والموسيقى. ديناميكية موسيقية حكاية موسيقية تجمع الماضي بالحاضر حكاية موسيقية تجمع الماضي بالحاضر في ترحال نفسي نحو اغترابات الروح والبحث عمّا يطفئ الحنين للوطن، يبيّن بدرالدين “هي بالتأكيد مساحة للتلاقي الإنساني ولا شك بأن كل لقاء لحفل هو مساحة فرح لجميع الأعضاء، لاسيما أننا أصدقاء أو كنا زملاء دراسة أو طلبة ومدرسين في ما مضى. لا أدّعي ولا أعتقد أن الحنين يُلغى بالموسيقى أو بغيرها، لكن الموسيقى والفنون هي عامل مساعد لرأب جرح الحنين، إن صح التعبير، وهي الوسيلة التي نؤكّد بها لأنفسنا أولا وللعالم بأننا موجودون ومستمرون”. وعن جدل الهوية الموسيقية الشرقية وتقديمها في محافل أوروبية وكيفية العمل على تطويع ذلك الفن في ثوب عصري، يقول “أودّ بدايةً أن أضع خطا عريضا تحت كلمة تطوير، نحن لا نطوّر ولا أومن بأن أي موسيقى تحتاج إلى تطوير. فالموسيقى أساسا هي حالة ديناميكية ومتحركة باستمرار”. وهو يعترف أنه يقدّم الموسيقى الشعبية والكلاسيكية العربية بوجهة نظر مختلفة، موضحا “من المعلوم أن موسيقانا أحادية الصوت ويقع كل الثقل الفني على اللحن مدعوما بأهمية إيقاعية بالغة. ومنذ أواسط وخلال النصف الثاني من القرن الماضي وكحالة طبيعية لديناميكية الموسيقى بتأثيرها وتأثرها، بدأنا نرى توسيعا لحجم الفرق الشرقية ثم إدخال آلات لم تكن مألوفة حينها، كالقيثارة والأورغ الكهربائي”. ويروي بدرالدين أنه ومن خلال الحالة الكوسموبوليتية لمدينة القاهرة واحتضانها للعديد من الجنسيات والثقافات المختلفة لاسيما اليونانية والإيطالية وغيرها، بات العرب يستمعون لبعض الأعمال الموزعة أوركستراليا على الطريقة الغربية كبعض أغاني عبدالحليم حافظ. إلا أن المعالجة الأوركسترالية تلك اقتصرت على بعض المقامات الشرقية الخالية من أرباع الصوت وبالتالي اقتصر التعامل الهارموني معها على المطابقة مع الموسيقى الغربية. وهذا التجديد في اللون الصوتي كان له أثره على الأُذن العربية التي بدأت الاعتياد على هذه التعددية الصوتية للأغنية. تقديم التراث الموسيقي السوري والعربي بتوزيع خاص تقديم التراث الموسيقي السوري والعربي بتوزيع خاص ويؤكّد “كان لاحقا للإنتاج الموسيقي التجاري دور في ذلك، وبمعزل عن سويته الفنية، كان له أثر على مِراس الأُذن العربية وتقبلها لسماع خط موسيقي مختلف عن الخط اللحني على الأقل في الطبقة الصوتية المنخفضة أو ما نسميه موسيقيا الباص. وقبل ذلك وبالتوازي مع تلك الحركة الموسيقية في مصر، كان ظهور الرحابنة في لبنان خطوة متقّدمة في هذا الاتجاه، فقد سخروا خبراتهم المعرفية بالموسيقى الغربية والشرقية على حد سواء في الولوج إلى محاولات متميزة بتعددية صوتية لأغانٍ مبنية على مقامات شرقية تحوي أرباعا صوتية، وهنا أُشير إلى أغنية ‘مروج السندس’ في مقام الهزام مثلا”. ويعترف الفنان السوري أن ما تقدّمه “أورنينا” حاليا، هو امتداد لتلك الحركة والديناميكية الموسيقية، ولكن على مستوى أوسع وأشمل، فالنسيج الموسيقي للفرقة هو نسيج جريء يجد حلولا ويتعامل مع جميع المقامات الموسيقية ولا تشكل أرباع الصوت عائقا أمام الائتلافات الهارمونية المستخدمة فيه، بالإضافة إلى أن هناك مساحة مهمة للآلات النفخية النحاسية والخشبية. كل هذا يقدّم رنينا صوتيا خاصا ومتمايزا عن الرنين الأوركسترالي الغربي وعن الفرقة التقليدية الشرقية. والنقطة المهمة في رأي محدّثنا هي أنه كمؤلف موسيقي يقوم بتطبيق تلك التقنيات على أعمال معروفة وأحيانا على قطع موسيقية تعتبر من أمهات الكلاسيكيات العربية. وهو لا يخفي قلقه في كل مرة يقوم فيها بمعالجة عمل ما، قلق يتأتى من الحذر بالمساس بجوهر وشخصية تلك الأعمال. وعن ذلك يقول “لكني أستطيع الادعاء إلى الآن بأن النتيجة كانت مرضية جدا. ففي حفلنا في ألمانيا قمت بإعداد وتوزيع عملين ربما هما من ركائز الكلاسيك العربي، حيث قدّمنا دور أنا هويت لسيد درويش وموشح ملا الكاسات لمحمد عثمان، وهذا الأخير في مقام الراست وأي ملمّ ولو قليلا بالموسيقى، يعلم أن هذا المقام هو جذر المقامات الشرقية وأن التعامل معه هارمونيا أمر ليس باليسير مطلقا”. ويسترسل “باختصار يمكن أن أقول بأن ما نقوم به في أوركسترا أورنينا، هو إعادة قراءة لموسيقانا التقليدية وفق رؤية حداثية قد تؤسّس لشكل موسيقي شرقي معاصر فريد من نوعه”. أصوات عربية تمثال أورنينا تمثال أورنينا عن استقبال الجمهور الغربي لأعمال فرقة “أورنينا”، يقول المايسترو شفيع بدرالدين “كان واضحا منذ إطلاق الأوركسترا في حفلها الأول عام 2016 على خشبة المسرح الكبير لمدينة لوكسمبورغ، استقبال الجمهور الغربي واستحسانه لأعمالنا، وقد تأكّد هذا التفاعل الإيجابي في جميع عروضنا اللاحقة”. وهو يفسّر ذلك بأن الموسيقى بطبيعتها لغة تواصل متعدية للغات وللثقافات، يُضاف إليها النسيج الموسيقي الأوركسترالي الذي تقدّمه “أورنينا” جعل الكتلة الصوتية المسموعة مألوفة لحد بعيد من قلوبهم. وفي أعمال الفرقة تعامل مع العديد من الأصوات السورية الشهيرة والمغتربة، عن هذه التجارب وما يمكن أن يحمله المستقبل معها، يجيب “إن تأسيس الأوركسترا، وكما ذكرت سابقا، قام بناءً على التواصل مع الأصدقاء، ومنذ البداية كانت الصديقة رشا رزق وشادي علي بالإضافة إلى علي أسعد من أوائل المشاركين معنا. بالإضافة طبعا إلى المغنية الشهيرة لبانة القنطار والتي لم تستطع المشاركة معنا في حفلنا الأول لعدم قدرتها وقتها مغادرة الولايات المتحدة، إلاّ أنها انضمت إلينا في الحفلات التالية للأوركسترا. وفي حفلنا في أواخر شهر فبراير الماضي على مسرح فيلهارموني برلين، كان لنا تعاون مع المغني أبوغابي وكانت التجربة مثمرة للغاية. وبكل تأكيد سيكون لنا تعاون مع فنانين آخرين في المستقبل”. وعن إمكانية التغيير التي يمكن أن تحقّقها الموسيقى خاصة من خلال أعمال “أورنينا” في جو سياسي عالمي صاخب يرى شفيع بدرالدين أنه “لن تغيّر الموسيقى ربما واقع ما نعيشه. ولكنها تبقى مثل كل الفنون الإبداعية الأخرى وخاصة الجادة منها التي تحترم ذهن ومشاعر المتلقي، نافذة للأمل ومنبعا للفرح والتفاؤل”. وهو لا يعني بذلك أن يوقف الفن، ولن يوقف يوما الحروب، وهي أيضا، أي الحروب والكوارث، لن تستطيع إيقاف الفنون والحد من استمراريتها. وبضيف “بكل الأحوال وفي إطار ما نعيشه من حجر جماعي وهمّ عالمي، لا يسعنا إلاّ أن نتمنى للبشرية الخلاص السريع من هذه الجائحة وبأقل الخسائر، ونحن في فريق عمل ‘أورنينا’ نقوم في عزلتنا القسرية بالتحضير لمشاريع مستقبلية ورسم إستراتيجيتنا للمرحلة القادمة”.
مشاركة :