ذكر الكاتب والمسرحي عبيدو باشا في نص رافق معرضا فنيا سابقا بعنوان “قصة شجرة الكاوتشوك” للتشكيلي اللبناني عبد القادري، “لأن البيوت وإن خلت من سكانها، فإنها لا تموت إلاّ بموت الشجر”، تنسحب هذه الكلمات على المعرض الجديد الذي يقيمه الفنان في صالة “تانيت” تحت عنوان “اليوم، أريد أن أكون شجرة”. بيروت – “اليوم، أريد أن أكون شجرة” معرض يحاول من خلاله الفنان التشكيلي اللبناني عبد القادري إعادة الحياة إلى المنطقة المنكوبة في تفجير 4 أغسطس الماضي ببيروت وإلى “تانيت”، الصالة الفنية المدمرة، عبر رسم غابتين شاسعتين متداخلتين على جدارين سالمين في الصالة. معرض أعادني إلى ذكريات قديمة، إلى أكثر من 15 سنة مضت، حينما زرت بيت طفولتي المهجور في منطقة الصنائع لأنني علمت بأنه سيهدم، بعد حصولي على الإذن ذهبت إلى هناك أنا وصديق لي رفض أن أذهب بمفردي إلى البيت. شعرت يومها باختناق وحنين جارف ورغبة في إيقاظ ولو شذرات من الذكريات العميقة الكامنة في ذاكرتي. لم يتفجر كل ما شعرت به في نفسي رسومات ورواية حملت عنوان “يا لون العصفور” إلاّ عندما عثرت في الشرفة المُهملة على نبتة جيرانيوم مُشرقة الألوان يبدو أنها صمدت على قيد الحياة بسبب أمطار السماء والرطوبة. أطلقت في الرواية على هذه النبتة عنوان “بالغة الأثر”. اليوم، أتذكّرها بقوة وأتذكّر ما استمريت على تسميته بـ”البيت العتيق”. أتذكّر البيت الأول عبر معرض عبد القادري الذي رسم فيه غابتين، هما أيضا “بالغتي الأثر” وهشاشتهما غنائية كهشاشة شجرة الكاوتشوك العملاقة التي تناولها الفنان اللبناني في معرض سابق، وهي هشاشة كهشاشة نبتة الجيرانيوم التي قد يكون زرعها والدي وعاشت على الشرفة المهجورة حتى يوم احتضارها هي والبيت. هشاشة “غابة” الفنان عبد القادري وبلاغة بقائها حتى ما بعد غيابها الحسي أو تفكّك أجزائها متأتية من عدة أسباب، أولا: لأن الفنان اختار كعادته في كل معارضه الفنية أن يعطي بعدا فكريا ومفهوميا للوحاته التشكيلية ممّا يجعلها قابلة للتحوّل والتمدّد والتكاثر في هيئات ومناسبات مختلفة. ثانيا، لأن الفنان قرّر أن يرسمها بأقلام الفحم الهزيلة أمام فعل الزمن والمصنوعة من أجساد الأشجار ممّا جعلها تكتنز معنى يتخطى محدودية الحواس. وثالثا، لأنها بصريا تبدو متأرجحة ما بين الوجود الأرضي وبين كونها أشباحا لأشجار ترفض الرحيل، لأن لديها ما تكمله على هذه الأرض المنكوبة. رابعا وأخيرا، لأن الجداريتين اللتين رسمهما الفنان مكونتان من 80 قطعة كرتونية متلاصقة، جمعت ما بينها شرائط لاصقة، معروضة للبيع قطعا منفصلة عن بعضها البعض. أشجار عبد القادري لا تتساءل ولا تُعاتب، هي قد تخطت عتبة المناجاة، إنها موجودة لتكون شامخة على شفير الهاوية وإذا، فعبر الشرذمة المقصودة للعمل الفني وتقسيمه إلى أجزاء لن يخسر العمل معناه، بل سيزداد، لأنه سيكون منتشرا عبر مُقتنيه في عدة أماكن متباعدة، ولكن متلاحمة من حيث المعنى. معرضه هذا بعيد انفجار بيروت وتدمير صالة “تانيت” بشكل شبه كلي ووفاة المهندس الفنان جان مارك بونفيس (مصمم المبنى الذي تقع فيه صالة تانيت)، هو معرض استثنائي، لأنه الأول في لبنان بعد كارثة الانفجار ويعود ريع مبيعات القطع الفنية التي تتشكل منها الغابتان إلى المتضررين من الانفجار وإلى إعادة إعمار وترميم بيوتهم. حوار صامت رسم عبد القادري الغابتين باللون الأسود والرمادي والأبيض ولم يحضر إلاّ لون “حقيقي” واحد وهو الأحمر، وأخذ هذا الأخير هيئة اسطوانية اعتلت الغابتين. قد تكون هذه الهيئة الساهرة كعين هي الشمس أو هي القمر أو ربما الاثنتين معا. وربما لأجل ذلك يُذكّر عمل الفنان بالفن الياباني المُثمّن للصمت وللبطء وللطبيعة. يوضّح الفنان أن فكرة المعرض انطلقت في البداية من الشعور بالاختناق الناتج عن الحجر بسبب الوباء، وأيضا نتيجة للأزمات السياسية والاقتصادية التي عمّت لبنان، خاصة بعد الخيبة الكبيرة التي شعر بها كل من خرج إلى الشارع في 17 أكتوبر 2019 محاولا تغيير الأوضاع المزرية القائمة. وولدت فكرة المعرض تحديدا عندما كان يزور الغابات المنتشرة في لبنان في أوج أيام الحجر ليجد السكينة والعزاء والأمل في عودة الحياة، غير أنه أزاح جانبا العمل على هذه الفكرة حتى جاء يوم انفجار بيروت الذي اختصر بشكل من الأشكال مأساة اللبناني في ظل سلطة فاسدة. يؤكّد عبد القادري أنه يهدف في هذا المعرض إضافة إلى بيع أجزاء “الغابتين” مُساهمة في مساعدة المتضررين، إلى نشر جو مضاد للدمار وإهدائه لذكرى المهندس جان مارك بونفيس، غير أنه يُصرّ أن لا يعتبر أحد عمله هذا كنوع من نشر الأمل والسعادة. فالأمر في لبنان بالنسبة له قد تخطى هذه العتبة. الجدارية تبدو بصريا متأرجحة ما بين الوجود الأرضي وبين كونها أشباحا لأشجار ترفض الرحيل، إلى أن تتمّ مهمتها وما أراد أن يقوله القادري عبر هذا المعرض هو “تمام. لم أمت. لا أريد أن أقول إنني محظوظ بذلك، ولكن أريد الاستمرار في عملي الفني، فهو ما أُحسن القيام به، ربما كي أُساعد به الآخرين”. حوار أشجار هاتين الغابتين في الجداريتين حوار صامت يجري في نسغ أغصانها المتقطعة والمُتداخلة التي وشحتها أصابع الفحم في مواضع كثيرة. حوار “ضمني” يحتوي أيضا تساؤلات شجرة الكاوتشوك في معرض سابق للفنان يقول فيه “لِمَ يبني البشر البيوت؟ ليتركوها وحيدة؟ سألتني الشجرة”، كما تختلف أشجار عبد القادري الحالية عن نبتة الجيرانيوم التي عاتبتني في الرواية قائلة “أي نفح أحضرك إلى هنا؟ أهو نفناف ربيع ساق طريقه إليك؟”. أشجار الفنان عبد القادري لا تتساءل ولا تُعاتب، هي قد تخطت عتبة المناجاة، إنها موجودة لتكون شامخة على شفير الهاوية، وفي قلب الحدث ووفق مزاجية غبار الفحم الذي خط به الفنان معالمها
مشاركة :