يعتمد الفنان اللبناني محمد عبدالله في سرده البصري على مشاهد يومية دلالية تشير إلى التناقض، وأحيانا إلى السخرية البارزة في أكثر المشاهد جدية. وهو في رسمه للانشغالات اليومية الصغيرة، لا يريد أن يتغاضى عن الجانب الشاق من الحياة الإنسانية، بقدر ما يريد التركيز على بساطة العيش في كنف التعقيدات الحياتية، وهو ما يتجلّى حتى في رسوماته الأخيرة عن الوباء وانعكاساته على الطواقم الطبية. منذ أكثر من أربع سنوات قدّم الفنان التشكيلي اللبناني محمد عبدالله معرضا فنيا في صالة “زمان” البيروتية بعنوان “ما خصني”. عنوان لافت، ولكن ليس بغريب على فنان، لمن عرفه عن كثب، تميّز بخفة روحه وشخصيته المتهكّمة التي تخفي الكثير من الحساسية والتحفّظ على الغوص في ما حفر في القلب نتيجة ما اختبره في حياته الشخصية أو ما عايشه في لبنان المتأزّم دوما. قال الفنان يوم افتتاح معرضه هذا “لا أريد نقل الانقسامات الحادة السياسية والاجتماعية والأزمات الأمنية في لبنان والمنطقة إلى لوحاتي، وهي (أي الانقسامات) بالرغم من حضورها لا تظهر، إلاّ من خلال لا مبالاة الناس المقصودة ومحاولتهم الحثيثة في أن يعيشوا حياة طبيعية أو شبه طبيعية في ظل أزمة اقتصادية متواصلة تكلفهم هما وتعبا كبيرين”. الفنان اللبناني أقام معرضين آخرين بعد هذا المعرض، ولكن العودة إلى معرض “ما خصني” بالذات يبدو مهما في ظل ما أنتجه مؤخرا من لوحات بمادة الأكواريل خلال أزمة تفشي وباء كورونا، ولاسيما في بدايته عندما تسبّبت الجائحة في هلع شمل كل العالم بشكل عام والمنطقة العربية بشكل خاص، وهي التي لم يكن ينقصها وباء يقوّض مرافقها الحياتية ويشكل ضغطا وغموضا إضافيين على أهلها. الفنان اللبناني الذي “ما خصه بشيء”، أي لا علاقة له بما يحصل، وعلى الدوام أراد، ولم يفلح يوما، في أن يقنعنا بأنه غير معني بكل ما حصل ويحصل في وطنه، نشر على صفحته الفيسبوكية عددا من اللوحات التي تشبهه. تشبهه لأنها بالغة الحساسية، قليلة الكلام، عامرة بخطوط دقيقة تبسط الأشكال وتعطيها حقها في آن واحد. في هذه الأعمال تخلى محمد عبدالله عن إظهار حيادية زائفة بشكل كامل. رسم في تلك اللوحات وعلى خلفية هادئة كهدوئه، الأطباء والممرضين والممرضات الذين واجهوا الوباء في البداية بكثير من الشجاعة والقلق العميق. رسمهم الفنان فرادى وحولهم فراغ بألوان باهتة تراوحت ما بين الأزرق الباهت والرمادي الفاتح والبنفسجي القاتم بصفاء ريشة اعتدنا على ملاحظتها في لوحاته. وخلت الخلفيات “الفراغية” للوحات من أي إشارة بصرية إلى الزمن والمكان اللذين يتواجدون فيهما. كما اختفت ملامحهم الشخصية خلف ملابس بدت رقيقة جدا ولا توحي بالأمان. لم تكن له في هذه المجموعة لوحة واحدة (على الأقل حتى الآن) تجمع أكثر من طبيب أو ممرض. تبدو تلك الأفراد المعزولة تماما غير منشغلة في وسط عمل إنقاذ أو تمريض ولا تحيط بها أي آلة طبية. بل ظهرت منهمكة بأفكارها وحالاتها النفسية التي تراوحت ما بين الذهول والتعب والتأمل في الحالة الإنسانية كتجل لهشاشة الإنسان أمام الفايروس. والغريب في هذه اللوحات، كما ليس في أي لوحات أخرى لفنانين آخرين رسموا هؤلاء المسعفين، أن المشاهد يتعلّق نظره بالوجوه المختبئة خلف الأقنعة ويستطيع بالرغم من ذلك أن يقبض على الحالة الشعورية التي يختبرها المسعف ويعبّر عنها الفنان. ومن ناحية ثانية هذه الهشاشة الإنسانية، التي برع عبدالله في تصويرها وخلافا للكثير من الأعمال الفنية، بدت ليست مرتبطة فقط بالمصابين وبالقلق حول كيفية معالجتهم في وقت لم يكن هناك دواء أو علاج محدّد أو مؤكّد يمكن استخدامه لتحقيق الشفاء. حول هذه الخاصية البارزة في أعماله كان لنا حوار قصير مع الفنان عبر الهاتف وهو “عالق” كما قال في مصر، وغير قادر على العودة إلى لبنان بسبب استمرار إقفال المطار حتى الآن، ونتيجة لصعوبة التنقل التي لا تزال تفرض شروطها وإن بحدة أقل عمّا سبق. أخبرنا محمد عبدالله أن هذه الأعمال رسمها وهو في مصر كتحية للجهاز الطبي بممرضيه وأطبائه عندما كانت ظروف عملهم صعبة وخطرة جدا، ويشوبها القلق اليومي ليس نتيجة لأعداد الإصابات الهائلة والمتزايدة تحديدا، بل لأن شروط الوقاية التي كانوا يتّبعونها ضعيفة وغير واضحة على مستوى الفاعلية والحماية. قد يكون الفنان بهذه الكلمات أضاء على هذه الهشاشة الاستثنائية التي ظهرت عند شخوص اللوحات: المعالج في بداية انتشار الوباء كان أكثر هشاشة من المريض ولا يقل عنه خوفا على صحته. ومن المعروف عن الفنان اللبناني محمد عبدالله أنه يلتقط صورا فوتوغرافية لمشاهد تؤثّر فيه ثم يرسمها مبدلا ومضيفا إليها. ولوحاته الجديدة هذه، كما قال لنا، لم تخرج عن هذا السياق. فقد شاهد المئات من الصور في نشرات الأخبار وعلى مواقع الإنترنت ليختار منها، ويضيف إليها دامجا إياها بذهنية تشكيلية/تحويرية بتفاصيل من صور حقيقية وأخرى متخيلة. ينحاز اليوم الفنان محمد عبدالله إلى أجواء لوحات مختلفة، ولكن منبثقة من الأزمة التي أرخت بثقلها على البشرية جمعاء. لوحات لا تقل اختزالا وهدوءا عمّا سبقها من لوحاته. سيعثر فيها المشاهد على فسحة أمل أبطالها شخوص منهمكة بتسيير طيارات ورقية فلتت من ضغط الوباء ونفضت عنها غبار الحجر الصحي.
مشاركة :