وجوه ربيع كيوان تصرخ في كل أحوالها | ميموزا العراوي | صحيفة العرب

  • 5/29/2020
  • 00:00
  • 11
  • 0
  • 0
news-picture

الفنان السوري ربيع كيوان يقدّم لوحاته الجديدة غير خارج عن مساره الفني، وإن مع اختلاف في الأسلوب ودخول الألوان إلى أرجاء لوحاته. لوحات عرضها على صفحته الفيسبوكية تنضح بمخاوف الحاضر وقد أُضيفت على المعاناة الإنسانية التي سبق أن تناولها من خلال أثر الحرب والشتات على الشعب السوري. قدّم الفنان التشكيلي السوري الشاب ربيع كيوان الحاصل على شهادة جامعية في الفنون التشكيلية من جامعة دمشق سنة 2008، لوحاته في معارض عديدة تبدّل فيها أسلوبه الفني وتطوّر مع الحفاظ على اهتمامه برسم الوجوه المعبّرة وتصوير حالات الشتات المتنوعة التي عرفها الشعب السوري والتي لا يزال إلى اليوم يعاني من تداعياتها واستمرارها، وإن انحسرت أمواجها في السنتين الأخيرتين. أتت انطلاقته الفعلية من خلال معرض فردي قدّمه في صالة “مارك هاشم” البيروتية بعد أن أقام في المدينة محترفه الفني ليكرّس حضوره على الساحة التشكيلية. عرض مجموعة من 20 لوحة استخدم فيها تقنيات فنية مختلفة، لاسيما الكولاج ومادة الأكريليك. ويُمكن اعتبار هذه الأعمال بشكل خاص أعمالا تأسيسية رسّخت قواعد مزاجه الفني الذي أعلن عن وصوله إلى نضوج فني في المضمون والشكل على السواء. نضوج يمكن رده، وبقوة، إلى أصول انطلاقته الفنية منذ أكثر من سبع سنوات. باختصار شديد، معرضه الأول ضم وجوه شركائه في الوطن السوري بعد اندلاع الحرب السورية. بعض هؤلاء هم أصحاب وأحبة اضطروا إلى مغادرة وطنهم، مثلهم كمثل نصف الشعب السوري الذي هُجّر إلى خارج البلاد. وفي تلك الأعمال التي قدّمها ربيع أشياء كثيرة مُبعثرة وبقايا لأغراض شخصية تركها أصحابها أو أضاعوها في محطات الترحال المتعدّدة. من هذه الأشياء أحذية مُستهلكة ومرمية على مفارق الطرقات وملوثة بالغبار وبمخلفات التدمير. كما نعثر في لوحاته على أشياء أهم، لتشعّب دلالاتها، وهي جوازات السفر الملطّخة بالدماء أو بخربشات الأقلام ودمغ الطوابع وغيرها من مؤشرات لخروج ودخول متعدّد إلى مختلف الدول. وتعبّر الوجوه في تلك اللوحات على حالة استثنائية من الغربة، ليس فقط عن الجغرافيا، ولكن أيضا عن الذات. ولعبت الألوان القاتمة التي اختصرت بشكل أساسي على الأسود والأبيض والرمادي دورا في جعل زمن الشتات “تشكيليا” زمنا مفتوحا غير محدّد بتواريخ. وجوه الفنان السوري ربيع كيوان تعبّر عن حالة استثنائية من الغربة، ليس فقط عن الجغرافيا، ولكن أيضا عن الذات صرح الفنان السوري في الماضي أن هاجسه الأساسي هو الإنسانية ووجوه البشر الذين لفحتهم نار الحروب والنزاعات. وهو اليوم، بالتأكيد لا يحيد عن هذا الهاجس بل وسّع حدوده ليشمل الإنسانية جمعاء انطلاقا من تقشّف ألوانه حتى العبور إلى ألوان أكثر بهجة. ولكن ليس أقل انكماشا ومأساوية. اليوم ومنذ ما لا يقل عن أربعة أشهر نشر ربيع كيوان تباعا على صفحته الفيسبوكية مجموعة من الأعمال الفنية تجعلنا نقف أمام جدلية الخارج والداخل الإنساني في الشكل كما في المضمون. اللوحات تجسّد حضورا طاغيا لأشخاص، نساء ورجالا، تخلخلت حدود أشكالهم البشرية حتى تسرّب منها “بعض” ومضات من أطيافها (أرواحها) مبعثرة هنا أو هناك في اتجاهات اللوحات الأربعة. وشكّل هذا التخطّي ديناميكية تشكيلية ضاعفت من الضجيج الداخلي للوحات، كما شكل هذا التخطّي، أي محاولة تخطّي الأجساد للخطوط المرسومة، إشهارا بحالة نفسية ووجودية مسكونة بعنف عميق. عنف يُريد أن يتحلّل وأن يفلت من حدود الأجساد المسيّجة بقهر مُزمن. من الواضح جدا أن محاولة “الإفلات” لم تنتج فقط عن سابق تلقي ضربات الشقاء التي عبّر عنها الفنان في لوحاته السابقة، بل هي نتيجة لعزلة من نوع جديد مرجعها إلى حالة الحجر الصحي التي أُقيمت قوانينها بعد تفشي وباء كوفيد – 19. من المؤثر أن تعثر على تناغم صاخب ما بين عنصرين منفصلين ومُلتقيين في آن واحد في لوحات الفنان ربيع كيوان الأخيرة والمنشورة على صفحته الفيسبوكية، وهما: خلفية للوحة وأجساد الأشخاص ولاسيما وجوههم. الخلفية تسرّب إليها بعض من “أرواح” الأشخاص كألوان وأعشاب مائية مُتحلّلة تُذكّر كثيرا بما قدّمه الفنان السوري في أعماله السابقة. غير أنها في هذه الأعمال بات لها وجود أكثر حضورا لناحية ما تمثّله. وما تمثّله على الأرجح هو بعض من التيارات الداخلية التي “هربت” من سجن أجسادها في حين أنها كانت في لوحاته السابقة بقع دماء أو رماد أو آثار دمار. ثم تأتي الوجوه ذات التعابير المُبالغ فيها، من شكل العيون واستداراتها إلى تفاصيل الملامح الأخرى. جاءت منسجمة مع “تشظياتها” وتفكّك خطوط الأجساد. تعابير مُضاعفة لأنها لم تتخلّ عمّا عبّرت عنه في لوحات الفنان السابق، بل أضافت إليها ما تعانيه اليوم من هلع وعزلة وشكل من أشكال قنوط لا يوحي في معظم اللوحات بأنه سيأخذ صاحبه نحو التلاشي، بل إلى جنون أو ثورة مؤقتة تحمل في نسغ ألوانها نهاية الجنون، أو لنقل النجاة منه. تأخذنا وجوه ربيع كيوان التي تدمج الرعب بالمرح القاتم إلى وجوه الفنان الصيني المعاصر يو مينجوم، ولكن فقط لناحية أنها كلها أعداد من مجموعة فنية واحدة تتكلّم عن نفس الحالة الوجودية. وإن كانت وجوه الفنان الصيني الضاحكة بمبالغة كوميدية ومرعبة في آن واحد تمثّل بشكل كبير ما قد ينتج عن معرفة الإنسان بمصير قاتم ينتظره، فوجوه كيوان هي أشدّ خطورة لأنها وجوه عادية تشبه كل الناس العاديين مع تفصيل واحد: أنها الوجوه التي شوّهها الخوف والشعور بالعزلة دون أن يقضي عليها، تاركا إياها أمام مصير مفتوح: إما النجاة أو الاضمحلال.

مشاركة :