بطون متخمة وعقول تتضوّر جوعاً

  • 8/7/2015
  • 00:00
  • 7
  • 0
  • 0
news-picture

فيما نعى أحد المعلّقين على «فايسبوك» أخيراً، إغلاق مكتبة شهيرة في العاصمة الأردنية عمّان، بسبب عدم استطاعة أصحابها تسديد نفقاتها القليلة من إيجار ومتعلّقاته، يلحظ المتجوّل في شارع المدينة المنورّة، الذي يبعد عن المكتبة كيلومترات عدة، ازدحاماً شديداً في منطقة مكتظة بالمطاعم، حتى راح الأردنيون المتّهمون بالكشرة التقليدية يسمّون الشارع، على سبيل الفكاهة والسخرية، «شارع الفجعانين». في «شارع الفجعانين» أي الشرهين الذين يصطفون طوابير من أجل الحصول على الوجبات السريعة، آناء الليل وأطراف النهار، تنتعش تجارة الطعام والشراب، وقلّما يجد المرء مكاناً من دون زبائن أو مرتادين، وهو ما يحدث في غالبية الأماكن المـــشابهة في مدينة قلما تناهى إلى أسماع ساكنيها أن مطعماً أو مقهى أغلق بسبب الكساد، أو سوء الأحوال الاقتصادية. ولعلّ ذلك ليس مقتصراً على عمّان وحدها، فثمة مدن وعواصم تشاطرها الأمر عينه. لكنّ ما يسترعي الانتباه، هو هذا التطرّف باتجاه الإقبال على تغذية البطون وملئها بما توافر من دون انتباه الى الجودة أحياناً، في مقابل الإقلاع عن حيازة كتاب، أو اقتناء مجلة، بهدف المطالعة لا لتزجية الوقت بقراءة الأبراج وحلّ الكلمات المتقاطعة. تحويل هذا الأمر إلى كربلائية، كما يحدث دائماً من جانب المثقفين أو محبّي القراءة والمعرفة، الذين أضحوا أقلية في المجتمعات العربية، لا طائل منه. فللتردّي الذي يسربل عوالم العرب العاربة في هذه القنطرة الحضارية المهولة جذوره العميقة، ولا يغرنّك ما تقذفه المطابع، وما تعرضه دور النشر في معارض الكتب التي تتنافس على الإفصاح عن مليونيات الكتب المعروضة، وعدد الكتب المباعة التي صار اقتناؤها من أجل القراءة أمراً ثانوياً، فهي أولاً من أجل التباهي، ثم من أجل أن ترقد وحيدة على أرفف المكتبات المنزلية تداعب الغبار والصمت والعزلة. وتصدق الدعابة التي تقول، إذا أردت أن تخبئ مالاً لا تصله الأيدي، فضعه في كتاب، فذلك خيار آمن ومضمون. ويأتي من يذكّرك بأننا «أمة اقرأ»، لكننا مع الأسف لا نقرأ، وإن قرأنا لا نُحسن الاختيار، وإن أحسنّا الاختيار لا نتقن الفهم، ولا نحوّل القراءة إلى فعل معرفيّ يرتقي بالحياة، ويطوّر أحوال العيش، ويدفع بالحق والخير والعدل والجمال إلى الأمام قدماً، ويحول دون توحّش الظلام والجهل والتردّي العام. وقد جرّب كاتب هذه السطور، أن يطلب من تلامذته، أثناء عمله في جامعتين عريقتين نسبياً، أن يعدّوا تقريراً عن كتاب، كجزء من متطلبات الفصل الدراسي، فكان ذلك أشقّ على أنفسهم من تجرّع العلقم، وصدمته اعترافات غالبيتهم بأن هذه هي المرة الأولى التي يقرأون فيها كتاباً! وفي غمرة هذه الصور القاتمة، لا غرو في أن يزدهر «شارع الفجعانين» وتغلق مكتبة، ويكثر المتعلمون وحملة الشهادات الجامعية والدرجات العليا، ويتضاءل عدد المثقفين أو منتجي المعرفة الحقيقية. ولا غرو أن تنتشر «الداعشيات» في السلوك والتفكير والتطلعات، ويتعاظم التفكير الغيبي الذي يربط زلزالاً خفيفاً ضرب منطقة البحر الميت، بإقامة مهرجان جرش الذي يراه بعض «الدواعش» خطراً على الأخـــلاق العــامة، لأن فيه اختلاطاً، ويشتمل برنامجه على حفلات غناء ورقص، وهو ما يجعل الزلزال إنذاراً إلهياً بغضب ماحق. وثمة من ربط موجة حر عابرة بابتعاد الناس عن الدين، كأن الدين أضحى طقوساً وحركات، لا معاني سامية تحضّ على التسامح، وتنفتح على الحضارة بكل ثمراتها، وتشتبك مع الحياة من أجل تقديسها وإعمار الأرض، وتأثيثها بالفرح والخير والجمال.

مشاركة :