يلمس من يتجوّل في شوارع مصر حاليا أو يلقي نظرة على بعض وسائل الإعلام، العديد من الملامح الدالة على وجود انتخابات لمجلس النواب، التي تنطلق في 21 أكتوبر الجاري، ويستشعر كأن هناك سباقا محموما بين المتنافسين، عكس الشائع بأن انتخابات الغرفة الأولى للبرلمان ستكون منزوعة الدسم كما كانت انتخابات الغرفة الثانية، مجلس الشيوخ، منذ حوالي شهرين. تبدو السخونة المفتعلة واضحة بين المترشحين على المقاعد الفردية، وعددهم 284، لأن القوائم ولها نفس عدد المقاعد تكاد تكون محسومة للتحالف الذي يقوده حزب مستقبل وطن. هي سخونة خالية من البرامج السياسية وتعتمد على مدى ما يقدمه المرشح من خدمات ومساعدات مادية لأبناء دائرته الانتخابية. تعدّ الخدمات والمساعدات، أو بمعنى أدق الرشاوى، جزءا رئيسيا في الانتخابات المصرية على مستوى البرلمان أو النقابات المهنية، أو غيرهما، وتحدد إلى حدّ بعيد حظوظ المرشحين، بافتراض أن التصويت سيكون سليما ونزيها. مصر زاد هذا الاتجاه في الآونة الأخيرة مع صعوبة الحياة المعيشية، وهو ما تستحسنه الحكومة كثيرا، حيث يسهم في تخفيف الأعباء الاجتماعية عن كاهلها ولو بشكل مؤقت، خلال فترة الانتخابات التي تمتد لنحو شهرين من الاستعدادات المكثفة. ينشط عدد كبير من نواب الخدمات، كما يسمّون في الأدبيات السياسية، في موسم الانتخابات، ويحاولون التقرّب من المواطنين وربما التذلّل لهم لإقناعهم بشتى الطرق بالتصويت لصالحهم، ولا تجد لهؤلاء موقفا أو رأيا في قضية داخلية أو خارجية، ويتعاملون مع العملية برمتها على أنها منافع متبادلة بين المرشحين والناخبين. على المرشح أن يعلن عما يستطيع تقديمه بشكل مباشر قبيل الانتخابات، من مساعدات مادية وعينيّة لأهالي دائرته، ويبدأ كل مرشح في الإعلان عن العطاءات التي يراها مناسبة، وهو يعلم أن قطاعا كبيرا من الناخبين يحددون مواقفهم بناء على ما يعرضه كل مرشح من مزايا مباشرة، ولا يعبأون غالبا بالمرشح صاحب الرؤى السياسية. حوّلت الأزمات الاقتصادية اتجاهات الطبقة المتوسطة، وكانت تلعب دورا مؤثرا في عملية التغيير والحراك في المشهد العام، من الاهتمام بالبرامج السياسية إلى البرامج الخدمية، وتلاقت مع رغبة الحكومة التي سئمت الأحزاب النشطة وضجيجها، ولا تجد فيها سوى مصدر للصداع السياسي لا لزوم له الآن. انتبه المرشحون الطامعون في دخول مجلس النواب إلى أهمية الحصول على حصانته البرلمانية، والدور الحيوي الذي تمثله هذه المعادلة، واختصروا المسافات، وبدأوا في عرض برامجهم الخدمية لدغدغة بطون الناخبين، وهم يعلمون أن نسبة التصويت في الانتخابات المقبلة لن تكون أفضل من سابقتها في مجلس الشيوخ، والتي بلغت حوالي 14 في المئة، وهي نسبة متدنية بالنسبة إلى عدد السكان. كي تزيد هذه النسبة من الضروري أن تكون هناك حوافز وإغراءات لجذب حزب الكنبة، ويتشكل من المصريين العازفين عن الذهاب إلى التصويت لعدم قناعتهم بجدواها السياسية، ورأيهم السلبي في قدرة الناجحين على التأثير في قرارات الحكومة. ولأن عددا كبيرا من أعضاء هذا الحزب الرمزي من الطبقة الفقيرة، من المهمّ استقطابهم بوسائل خدمية أو مادية، أو الاثنين معا. وقد دخل أحد المرشحين، وهو رجل أعمال كبير، على خط أزمة التصالح المادي في مخالفات البناء بحيلة ذكية، حيث أعلن عزمه دفع الغرامة المالية عن خمسة آلاف شخص في دائرته. أجرى الرجل حسبة بسيطة، معناها إذا كان كل فرد يعول أسرة مكونة من أربعة أو خمسة أفراد لهم حق الاقتراع، فقد ضمن بذلك نحو عشرين ألف صوت انتخابي، يُضاف إليهم عدد آخر من الأقارب والأصدقاء والجيران الذين يمكن أن يستحسنوا الخطوة، بالتالي ترتفع حصّالته التصويتية. في ظل العزوف المتوقع يستطيع الرجل التنبؤ بنجاحه مبكرا أو المنافسة بقوة بهذا العدد القليل من الأصوات، ومع أن الحيلة تعود بالفائدة على شريحة من المواطنين، غير أنها قد تغضب شريحة أخرى من غير المستفيدين بها. ينفق الكثير من المرشحين في مصر أموالا طائلة على الانتخابات لدخول مجلس النواب، وهم يعلمون أن حصيلته السياسية ضعيفة أو معدومة، لكنهم يخوضون السباق لأجل العضوية وروافدها المتعددة، حيث تحقق لهم مكاسب مادية ومعنوية كبيرة، تجعلهم لا يترددون في دفع ثمن باهظ، وتحمل إهانات أخلاقية. يمكن التعرّف على أهمية عضوية البرلمان من قيام رجل الأعمال الذي تعهّد بدفع غرامات مخالفات البناء بحملة إعلانية في معظم وسائل الإعلام، للدرجة التي تتصدر صورته ست مرات في الصفحة الرئيسية لأهم وأكبر المواقع الإلكترونية في مصر. مصر لم يلتفت المرشح الموقر إلى أن الإسراف في الدعاية يحمل تناقضا في حملته الانتخابية، ففي الوقت الذي أراد فيه أن يقدم نفسه كنصير للفقراء والبسطاء وداعم لجهود الحكومة، يظهر الرجل مسرفا ومبذرا، بما يثير الشكوك حول أهدافه من عضوية البرلمان، كأن المسألة تحولت عنده إلى رهان للفوز بأي وسيلة ممكنة. تستمتع الحكومة المصرية بهذه النوعية من الألاعيب، طالما أنها خاوية من البرامج السياسية، وتحرص على عدم التدخل إيجابا أو سلبا فيها، وتترك المنافسة لقدرات مرشحين يتبادلون العطاء والسخاء، ويتحول الأمر إلى سباق بعيد عن دور البرلمان. تتكرر الظاهرة في دوائر كثيرة على مستوى الدولة، وانتقلت الانتخابات من طقس سياسي حرارته مرتفعة إلى كرنفال اجتماعي بارد، يقبل عليه المستفيدون فقط، ويتفاعل معه من يريدون لفت الأنظار إلى زاوية فرعية لا علاقة لها بالمشكلات الحقيقية، وحصرها في نطاق تراشقات ومزايدات حول من يقدم مزايا أكثر للناخبين. دخلت انتخابات البرلمان الثلاجة للمرة الثانية على التوالي بمجرد خلوها من المنافسة السياسية، وإصابة المجال العام بالشلل، ويتطلب إحياؤه إلى أحزاب وبرامج ورؤى ومناقشات وحلول لأبرز الأزمات، وهي السمة التقليدية التي تصاحب الانتخابات. نزع خلوها من هذه الملامح صفة الحماس التي كانت تلازم انتخابات مجلس النواب منذ عقود طويلة، ولذلك من الطبيعي أن يفضي الصراع بين أصحاب المصالح المادية إلى تشكيل برلمان يضم أشخاصا يعبّرون عن هؤلاء، بما لا يتناسب مع حجم التحديات الإقليمية، لأن إحلال الخدمات مكان البرامج السياسية سوف يضرّ بالدولة المصرية.
مشاركة :