المفاوضات عملية سياسية بين مصر وإثيوبيا | محمد أبوالفضل | صحيفة العرب

  • 6/15/2020
  • 00:00
  • 9
  • 0
  • 0
news-picture

ابتدعت الولايات المتحدة الكثير من الخصال السياسية السلبية في منطقة الشرق الأوسط، ومع أنها تخلت عن معظمها، إلا أن آثارها لا تزال باقية، فنجدها متجسدة في بعض القضايا، ويلوح شبحها في الأفق من وقت لآخر، حيث يُنسب إليها الفضل في تحويل المفاوضات بين الفلسطينيين والإسرائيليين إلى عملية سياسية منذ انطلاقها في مدريد قبل نحو ثلاثة عقود، وخوفا من انهيارها وسد الطريق على التسوية والعودة إلى خيار الحرب. كلما تعثرت المحادثات، أو دخلت نفقا مظلما، اخترعت واشنطن طريقا يعيدها إلى سيرتها الأولى، من مدريد، إلى أوسلو ووادي عربة، إلى غزة – أريحا أولا، إلى كامب ديفيد، وإلى باقي السلسلة، التي يتذكرها من عاصروا تلك الفترة حتى وصلنا إلى صفقة القرن، أو التصفية النهائية للقضية بالصورة التي يريدها من دفعوا إلى الانخراط دوما في عملية السلام، ولم تخل هذه السنوات من مقاومة فلسطينية، ومعارك إسرائيلية متقطعة، لكنها كانت أيضا تعود إلى مربع التفاوض، لأن الحرب المفتوحة تمت إحاطتها بالعلامات الحمراء. تشير الطريقة التي تمر بها المفاوضات بين مصر وإثيوبيا، ومعهما السودان، حول سد النهضة، إلى أنها أصبحت عملية سياسية في حد ذاتها. كل الأطراف الرئيسية والمراقبة والوساطة بدرجاتها تعلم أنها غير مجدية، ولن تفضي إلى نتيجة حاسمة بشأن تسوية النقاط الخلافية، مع ذلك تغضب عندما تتوقف أو تتعثر، وتطرب عندما تستأنف وتدور عجلتها. مضى نحو تسع سنوات على المفاوضات الثلاثية. مرت بالكثير من المطبات والعقبات التي يمكن تخيلها وعدم تخيلها، لم تنته سلبا أو إيجابا. في كل مرة تتوقف تمتد لها يد الحياة من هنا أو هناك. وفي كل مرة تصعد فيها المناوشات إلى حافة الهاوية تجد من ينزلها على الأرض بهدوء، لأن الدول الثلاث، مصر وإثيوبيا والسودان، لا ترغب في الوصول إلى نقطة الصدام، أو خط اللاعودة، والذي سيكون مكلفا للجميع. لن أستغرق في تفاصيل الصعود والهبوط، والتقدم والتراجع، والشد والجذب، فقد باتت معلومة على كثرتها، ولم يفلح طرف رابع وخامس وسادس في تسهيل مهمة التفاوض وتجاوز التحديات، فقد انخرطت الولايات المتحدة ومعها البنك الدولي لمدة أربعة أشهر، من نوفمبر وحتى فبراير الماضيين، وقبلت بهما الدول الثلاث، وقُدمت وثيقة مبادئ أنهت نحو 90 في المئة من المشكلات، غير أنها انهارت مع رفض كل من إثيوبيا والسودان التوقيع عليها. وقتها بدأت الخيارات القاتمة تتردد، وقيل الكثير حول تعامل مصر بخشونة مع الأزمة وضرب سد النهضة عسكريا، فلم يعد لديها الفائض اللازم من الوقت والصبر للاستمرار في المفاوضات، وقبل أن يذهب بعيدا أصحاب هذا السيناريو، أعلنت القاهرة تقديم مذكرة إلى مجلس الأمن، تبعتها ردود إثيوبيا والسودان، وأطفأت المذكرات الثلاث شبح الحسم العسكري. أعيد تسخين المفاوضات عبر دخول السودان كطرف أصيل، ووسيط فاعل، وبعد نحو شهرين من مبادرة أطلقها رئيس الحكومة عبدالله حمدوك دعت إلى محادثات جديدة أجرى اتصالات مع رئيس وزراء مصر، مصطفى مدبولي، ورئيس وزراء إثيوبيا، آبي أحمد، ثم توقفت مساعي الخرطوم بسبب انتشار كورونا أو غيره، وقبل أن يدب اليأس أعلن السودان استئناف المفاوضات، الثلاثاء الماضي، عبر فيديو كونفرنس بين وزراء الري في الدول الثلاث. ما يؤكد أن المسألة تحولت إلى عادة أو عملية سياسية روتينية، أن مصر أصدرت بيانا حادا في اليوم ذاته الذي استؤنفت فيه المفاوضات، عقب اجتماع لمجلس الأمن القومي في حضور الرئيس عبدالفتاح السيسي، ألمح إلى أن الجولة غير مجدية، ونتيجتها محكوم عليها بالفشل. قال البيان نصا: “تؤكد مصر على موقفها المبدئي بالاستعداد الدائم للتفاوض من أجل التوصل إلى اتفاق عادل ومتوازن يحقق مصالح مصر وإثيوبيا والسودان، ترى أن هذه الدعوة قد جاءت متأخرة بعد 3 أسابيع منذ إطلاقها.. ما يحتم تحديد إطار زمني محكم لإجراء المفاوضات والانتهاء منها، منعا لأن تصبح أداة جديدة للمماطلة والتنصل من الالتزامات”. لم تفارق الهواجس المفاوض المصري لحظة، مع ذلك قبل بالدخول في المحادثات، خاصة أن إثيوبيا حققت مطلبها بدخول دولة جنوب أفريقيا، كرئيس للاتحاد الأفريقي، ضمن فريق المراقبة، ومعها الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، وبالتالي لا توجد مبررات للحديث عن انحياز أميركي نحو القاهرة، فهذا التوازن بدا للوهلة الأولى مرضيا لأديس أبابا. بعد يومين، وجد المفاوض الإثيوبي نفسه قد وقع في فخ سياسي، فعاد للحديث عن عدم جدوى وجود مراقبين، وقدم ورقة جديدة تمحو النتائج التي توصلت لها اجتماعات واشنطن، والتي شددت الخرطوم على أهميتها، لتعيد أديس أبابا الكرة إلى المربع الأول، وتجني ثمار عنصر الوقت الذي مكنها من قطع شوط كبير في بناء السد دون اتفاقات مسبقة، وتحقق مكاسب نوعية من وراء تحول المفاوضات إلى عملية سياسية. لم يستغرق الأمر أكثر من خمسة أيام حتى أعلنت القاهرة رفضها لهذا المنهج، وأصدرت وزارة الري والموارد المائية في مصر بيانا حاد اللهجة، السبت، قالت فيه “الموقف الإثيوبي يتأسس على إرغام مصر والسودان بالتوقيع على وثيقة تجعلهما أسرى لإرادة إثيوبيا، أو القبول باتخاذها إجراءات أحادية، كالبدء في ملء سد النهضة دون اتفاق مع دولتي المصب”. تصل الوساطة السودانية إلى طريق مسدود إذا أخفقت في تقديم مسودة وثيقة توافقية سريعا وتحظى بالقبول من الجميع، ويُحرم المفاوض الإثيوبي من استهلاك المزيد من الوقت، وهي الصفة التي ترافق كل جولة من المحادثات، غير أنها انتقلت من السنوات خلال الفترة الأولى، إلى الأشهر، ثم الأسابيع والأيام، ما ينذر بأن العملية السياسية فقدت جزءا من بريقها، واستنزفت جانبا من رصيدها الحقيقي لدى الدول الثلاث. لكل دولة أسباب ومبررات جعلتها تقبل بصيغة مرنة، ربما تبعدها عن الدخول في خيارات صعبة، فمصر لم تتحدث رسميا عن طريق للحل سوى المفاوضات، وكل التلميحات العسكرية جاءت في إطار الجاهزية العالية لمواجهة التحديات الوجودية التي تهدد الأمن القومي، ضمن سيناريو لا تتمناه الدولة المصرية، لأن تكلفته قد تكون باهظة. ولذلك بانتظار حبل إنقاذ من أي جهة إقليمية أو دولية لنزع فتيل الأزمة قبل دخولها مرحلة جديدة، فالاعتراف بفشل المفاوضات كعملية سياسية غير منتجة معناه البحث عن خيار بديل. يبدو الأمر مشابها بالنسبة إلى كل من إثيوبيا والسودان، فهما يعلمان أن الحرب سوف ترغم كليهما على دفع أثمان عالية، لذا سيتم البحث عن منقذ يجعل الجميع لا يغادرون الطاولة؛ لأن مغادرتها هذه المرة دون سقف زمني وتقني، وتوافق على النقاط الخلافية، قد تضاعف من صعوبة العودة إلى حلبة المحادثات. أوشكت فكرة التوظيف السياسي للمفاوضات على الانتهاء مع اقتراب ملء خزان السد خلال الشهرين المقبلين، ولن يكون هناك مجال للمناورات وانتظار حدوث معجزة تحقق العدالة، فإما التفاهم والسلام، أو استمرار الاختلاف والاستعداد لسيناريوهات بديلة للمفاوضات.

مشاركة :