ثقوب في ثوب الأمة

  • 10/23/2020
  • 00:00
  • 3
  • 0
  • 0
news-picture

نحن لا ندافع عن أحد ولا نلتمس العذر لأحد، لكننا نتابع عن كثب كل ما يُكتب، وكل ما يُقال في علم التنمية البشرية عن الاستثمار في البشر، وعن الدعوات المستفيضة للنهوض بالوعي بكل أنواعه، ونحن منهم نؤيد ولا ننكر ذلك على الإطلاق، لكن لكل نظرية ضرورة، ولكل حساب محاسب، ولكل بطن خاوية رأس فارغ.. يتحدث العالم عن تزايد تعداد السكان فيه، حتى أننا قرأنا وسمعنا عن نظرية المليار الذهبي التي تتلخص في الإبقاء على سكان الدول الأكثر تقدما ورفاهية مقابل سكان الدول الفقيرة والمتردية. وقد سبق وأن كتبنا مقالا مفصلا بهذا الموضوع ذي الصلة، لكننا نتساءل عما تقرره برامج التنمية البشرية فيما لو استخدمت هذه الثروات البشرية بعد الاهتمام بما يسمى الاقتصاد المعرفي وهنا تكمن القضية. الاقتصاد المعرفي هو المؤسسة الكبرى في تنمية الوعي العام، والوعي الشامل، والوعي القومي، بحيث تصبح هذه الكتل البشرية ترسانة في وجه التخلف والفقر والجهل والمرض. وهذا يقودنا إلى أهمية استراتيجية الاقتصاد، التي تدعم بدورها الاقتصاد المعرفي فهما الاثنان حلقتا السلسلة الممتدة في نهضة الشعوب، فالوعي الدائم والشامل لا يتأتى مع الفقر والعوز وقلة ذات اليد؛ ولذا فقد نفقد شريحة كبيرة من الأفراد والجماعات على مستوى وطننا العربي التي لا تقوى على التفكير ببطون خاوية وخاصة في مثل هذه الفترة الحرجة من تاريخ وطننا العربي. إن الكثيرين في هذه الأيام ينظِّرون ويتحدثون ويتساءلون عن الوعي الشامل متناسين أن معاصمهم براقة بالساعات الذهبية المرصعة بالأحجار الكريمة، في حين أن أغلب سكان وطننا العربي يكدحون ليل نهار ولا يستطيعون العيش حتى ولو على حد الكفاف! فالشرفاء كثر ممن يربطون على بطونهم ويتجرعون وعثاء العمل المرهق، لكنهم شرفاء يفضلون مصلحة أوطانهم على أي مصلحة أخرى وهم الأغلبية العظمى لصلتهم الوثيقة بالشرف الوطني. وهناك ضعاف النفوس مثلهم مثل الجسد العليل قليل المناعة يخترقه المرض من أي اتجاه، وهنا يصبحون في مرمى سهام الأعداء وأعوان الشيطان، فيجنحون وتجنح بهم سفينتهم إلى مرفأ هولاء القابعين على كراسٍ مأجورة ويتحدثون ويلوكون كلاما كمضغ الزلط ينفثونه خارج أفواههم، فهم مجبورون ومرتزقة خارجون من قانون الشرف العربي إلى قانون الانكشارية المأجورة في قانون الحروب القديمة في عمق التاريخ، فلم تعد قضيتهم الأوطان ولا التاريخ ولا العروبة ولا حتى الإنسانية بقدر ما أصبحت القضية مادية بحتة تبحث عن الارتزاق. هذه الثقوب السوداء في ثوب الأمة هي ما نراها اليوم مخدرة بفعل الدولار واليورو.. وقل ما تشاء. ومن هنا كان الدافع الأساسي هو المال بمعنى أن ضيق الأفق وحياة الضنك هما ما يثقب الثوب الأممي، فلا رأس على بطن خاوية؛ وهي قضية سبق وأن طرحتها في نصي المسرحي (أم الفاس 1991) تلك البدوية الشريفة ذات الفأس تشهره في وجه من حاول الاقتراب منها بين الجبال، ولكن يراهن عليها أحد رجال القبيلة بمئة ناقة ويتم الرهان بأن جعل في كل غار طعاما وينادي بخديعة ومكر ودهاء (لبيك اللهم لبيك) وحينما تسأله أم الفاس عن فعله هذا يخبرها بأن الرب يخبره بأن الغار هذا والغار ذاك وغيره مترعة بأفخم الأطعمة، وهو من سبق وأن وضعها ذات مساء! وكانت هي جائعة فتصدقه وتذهب لتأكل حتى أيقنت بأن الرب يخاطبه، ومن هنا تقع أم الفاس في يد ذلك البدوي الوضيع، فاختراق الذهنية هنا لم يأت إلا استغلال العقيدة مقابل الجوع! فأم الفاس لو كانت ممتلئة لما تبعت ذلك الرجل الأفاق الذي باع شرفه مقابل مئة ناقة. نحن لا ندافع عن أحد ولا نلتمس العذر لأحد، لكننا نتابع عن كثب كل ما يكتب وكل ما يقال في علم التنمية البشرية عن الاستثمار في البشر، وعن الدعوات المستفيضة للنهوض بالوعي بكل أنواعه ونحن منهم نؤيد ولا ننكر ذلك على الإطلاق، لكن لكل نظرية ضرورة، ولكل حساب محاسب ولكل بطن خاوية رأس فارغ فتختل الموازين وتسقط الرؤى، ويظفر أصحاب المخالب بهؤلاء من هنا ومن هناك ملوحين بركوب العربات الفارهة وسكن الفيلات ولف المعاصم بالساعات المجوهرة، وكل ذلك مطروح على قارعة الطريق، في يوم يلف أوطاننا العربية من المحيط إلى الخليج حزام من اللهب وبسيل دماء الأطفال قبل الشيوخ والنساء قبل الفتيات وتنصب المخيمات في مقتبل برد الشتاء وهطول الأمطار. ألا يذكر علماء التنمية البشرية حمار برديان؟، الذي وضعه صاحبه بعد رحلة شاقّة؛ وهو يتضور جوعا، ويكاد ينفق عطشا، بين العلف والماء، فيتساءل أيبادر بالأكل؛ ثم يثنّي بالشرب ويكرر الدوران في حيرة، وهو يرجح ويزن الحسنات والسيئات، فينهق ضعيفًا وكأنه يشهق.. ثم ينفق جوعا وعطشا.. ولا هو يبت في الأمر ولا هو يقر بقراره.. وتخور قواه، وتتراخى قوائمه.. وتزيغ عيناه.. ويتهاوى ليموت جوعا.. أو ربما عطشا.. أو جوعا وعطشا في آن واحد لأنه غير قادر على اتخاذ قراره ببطن خاوية! إنها حكاية استلهمها الفيسلوف الفرنسي جون بروديان (1298 - 1366) وهو الذي أعاد اكتشاف نظرية الاندفاع، في نظريته (Impulsivity theory) لكي يناقش قوة الاختيار واتخاذ القرار. وسميت هذه التجربة باسمه وصار لحمار بورديان لوحات فنية في أغلب متاحف العالم، ذلك لأنها تؤطر لنا كيف تكون قوة الاختيار واتخاذ القرار، لأن مع الجوع لم يقوَ حمار بروديان على الاختيار. إن الدعوات لإيقاظ الوعي من أهم ما يشغلنا في يومنا هذا مثلنا مثل كل المواطنين الشرفاء، ولكن يجب أن يوازي هذه الدعوات على الكفة الأخرى الاهتمام بحياة الفرد حياة كريمة تجعله يقوى على الوعي فيقوى على اتخاذ القرار.

مشاركة :