طلبتُ من الشاعر إبراهيم محمد إبراهيم قصيدة يمكن أن تمثل خلاصة تجربته الشعرية، واستجاب لطلبي مشكوراً، وبعث لي قصيدة سكر الوقت، وهي قصيدة طويلة تقوم على الصدمة والدهشة، ومحاولة تحويل وظائف عناصر العالم المحيط (الخارج) مقابل أسئلة ذاتية تبحث عن حلول ترسخ وجودها، وحاولتُ أن أتفحص أسباب الاختيار لأقف على المشروع الشعري لهذا الشاعر، ولم أجد وسيلة أفضل من تحليل بنى القصيدة المختلفة، ولكي يؤدي هذا التحليل وظيفته كان لابد لي من ملاحظة البنى المركزية وعزلها عن البنى الفرعية في هذا النص، بسبب طوله ومحدودية المساحة في النشر. يمثل الإيقاع بنية مركزية في هذا النص وتتعاضد معه بنى الصورة والمفارقة واللغة التي تزيح المألوف في إنتاجها لعوالم القصيدة، فضلاً عن التشكيل البصري ودلالاته، لأن قصيدة سكّر الوقت تنتمي إلى شعر التفعيلة وهي من البحر المتدارك (فاعلن، فعلن) وهذا يعني أن مشروع إبراهيم الشعري يرتبط بالوزن، وهو ارتباط ينم عن مقدرة في تكييف الموسيقى الخارجية لمصلحة الشعر، خاصة أن القصيدة ليس فيها أي خلل عروضي، فضلاً على استثمارها الإيقاع الداخلي بكثافة عبر بنية التوازي، وما يمكن أن تحدثه من أثر موسيقي إضافي في إيقاع القصيدة، أمّا التشكيلة البصرية في قصيدة (سكّر الوقت)، فإنها تمتاز بالاعتماد على السطور القصيرة والبناء الهرمي المثلث والمقلوب كما في التشكيل الآتي: سكّر الوقت يحتاج سكّرة كي يطيب ويؤتي حلاوته مثلما كان أمّا تشكيل المثلث المقلوب فيمكن ملاحظته في هذا المقطع: في الرصيف الموشّى ببعض السكارى وبعض الكلاب الأليفة والصمت أمشي ..ولكل بناء في هذا التشكيل وظيفته، فحين يكون الهرم مقلوباً هناك بنية تلاشٍ وضمور (غربة)، وحين يكون الهرم اعتيادياً يكون الوجود طبيعياً معتاداً، وهنا يمكن القول إن ما ينتظم في التشكيل البصري يمثل انعكاساً للصراع في فضاءات القصيدة المختلفة، وعلى النحو الآتي: يقوم النص على إجراء مقاربة بين الوطن والآخر من خلال مجموعة علائم، بعضها يومي وآخر كوني، ولكل علامة بُعْدها وامتداداتها وتأويلاتها، فسكّر الوقت ببعده اليومي يتحول إلى الوطن أحياناً، وإلى رمز للوجود في أحيان أخرى، مثلما يتحول فصل الصيف من زمن يدفع للهرب نحو الآخر إلى وجود راسخ للذات في الوطن: .. هذا الصباح جديد ومختلف والسماء بحار من الغيم تهمي على الأرض موجاً وحلماً تراه الشتاء تقدم؟ أم انه الصيف..، وتحوّل الصباح هنا هو الذي جعل الوقت سكّراً ومنح الزمن طعماً مختلفاً، ولهذا كان سكّر الوقت العنوان أو (الهادي) لعلاقات النص كله ولازمة لتحولات القصيدة في معظم مواقعها: سكّر الوقت يحتاج سكّرة كي يطيب... وفي مقطع آخر يقول النص: يا سكّر الوقت تحتاج سكرة كي تطيب وعلى هذا المنوال يجري سكّر الوقت في معظم مقاطع القصيدة وتحوّلاتها، وتنبني التحولات على حقيقة أن الوطن يمثل العلاقة الصادقة مع الحياة، والصلة الحميمة مع الأشياء في حين تصبح تلك العلاقة في بلاد الغربة باردة باهتة كالشاي البارد، وهذه العلاقة تتضح من خلال التضاد بين صباحات الوطن وصباحات الغربة، وهنا استعار النص المكان ليقدم صورة الزمان من خلال ما تتصف به الأزمنة في الأمكنة في الوطن والغربة، ففي البدء كان العالم الآخر (الموازي للوطن) مدهشاً، والوطن ألفة مكررة الملامح والعلائم، وهي علاقة نمطية بين الإنسان والمكان لكن هذه النمطية سرعان ما تتحول إلى دهشة وحنين تجاه الوطن وألفة وتكرار في الملامح مع الغربة، يقول النص في بدايته عن الغربة: كل السّكاكر مهما نقلّبها ها هنا لا تبوح بأسرارها هناك تحلو الحياة بلا سكّر....... هنا الناس أبسط مما تظن. إن هذه الدهشة تقابلها ألفة: لا أحنّ لصيفي هناك وهي مقاربة بين صيف الآخر وصيف الوطن، وإذا كانت هذه المقاربة زمنية فإنها تنطوي على ملامح جمالية في المكان والعلاقة مع الناس: لا أحنّ إلى صيفي هناك... وفي هذا أصبح الوطن (هناك) والغربة (هنا) وفي هذا السياق يتحدث النص بذاكرة الغربة، ثم يفجر السرّ في هذا التحول فيقول: ولكن إلى سكّر النخل أرنو بقلبي وترنو اليّ النخيل بلا سكّر وهنا يحدث ما يشبه بعودة الوعي نحو الأشياء وعلاقاتها، كما ملاحظ طريقة استثمار النص لموضوعة السكر وتحويلها إلى قضية كونية تتعلق بالذات والوطن والآخر من خلال يوميات معتادة في الحياة، لذلك نجد أن النص ضغط على مفردة السكّر في معظم مقاطعه، ليعيد التوازن المضطرب في علاقة الأنا مع الآخر، فما أن بدأت الذات باكتشاف حقيقة الآخر حتى تحولت الدهشة إلى الوطن، والألفة إلى الغربة يقول النص: تذكرت شاي بلادي مرارته حلوة. أمّا الآخر، فقد أصبح بعد الألفة على النحو الآتي: أنت لست ترى في الشوارع غير العيون تحدّق فيك ولكنها لا تراك. وفي مقطع آخر: إنهم نائمون ويمشون يجرون كل إلى بيته.... الفرنجة ليسوا كأرض الفرنجة خضراء مفعمة بالمحبة هم كحديد المصانع الشوارع ميتة المحلات مقفلة لقد اعتمد النص على بنية السرد في التعبير عن علاقة الكائن مع الوطن والغربة عنه ووصل هذا التعبير إلى حد تلاشي الوجود في الغربة، وهنا عبر النص عن هذا التلاشي من خلال بنية المفارقة إذ يبدو النص الظاهر ان الذات أقوى من الآخر الذي هو في حالة ضعف، ولكن الحقيقة أن الآخر هو الذي تجاوز الذات بقوته بسبب وجوده في وطنه وقد كرر هذا المقطع بصيغتين متشابهتين تعبران عن صورة واحدة: أتعالى على النائمين وأعبر بين حذائي وقبّعتي بسلام.. وفي مقطع آخر يقول: أمرّ على الكائنات المسجاة بين المقاهي وأعبر بين حذائي وقبّعتي والملاحظ في القراءة الأخرى لهذين المقطعين أن الذات ضعيفة وتحاول عدم الاصطدام بالآخر، فالمرور بسلام يعني وجود بيئة مغايرة للسلام. لذلك يمكن القول إن بنية السرد في قصيدة سكّر الوقت اعتمدت مجموعة من التقنيات التي حاولت الارتفاع باللغة من المألوفة إلى لغة الشعر، ومن هذه التقنيات إبدال الوظائف في علاقات الموجودات، فالمكان يتحول إلى زمان وبالعكس، كما تضمن السرد الثنائيات المتضادة في علاقة الذات مع الموضوع كما في المقطع الآتي: واسوّد شعر النساء كما ابيضّ شعري وهناك بنية توازٍ عمد النص من خلالها إلى تكثيف قوّة الإيقاع في القصيدة: أيها الألب أيها القلب....أيها الألب عِدني وعُدْني، واستعمل النص أسلوب المفارقة لتعزيز فكرة الألفة والدهشة في العلاقة مع الموجودات، فالأرض المنبسطة السهلة في الوطن يقابلها التعقيد عند الآخر، وهذا التعقيد يفرض على (رأسك) أن يكون مرتفعاً، وهي علاقة تنطوي على تأويلات وجودية متعددة الاتجاهات منها السلبي الذي يشير إلى التعقيد، ومنها الإيجابي الذي يشير إلى الشموخ: وتبصر فوقك تلك القرى في السفوح سلالم تخطف قلبك، وفي قوله: الحبيبة تحتاج ملحاً. إن هذه التقنيات التي تضمنتها بنية السرد على أهميتها الإيقاعية والدلالية لم تستطع نزع الاعتياد عن لغة النص بشكل كلي، لكن هناك مواقع أخرى استطاع النص أن يخرج فيها إلى لغة الشعر كما في المقاطع الآتية: ثم يستيقظون على جرس الشمس، فيينا أنا وجهك المتضجر ألمس السحاب بروحي. لقد استطاع النص أن يشد متلقيه من خلال استعمال تلك التقنيات في علاقات لغته، مثلما استطاع أن يشده من خلال التكوينات الصورية في مقاطعه والتي تضمنت لعبة المفارقة والصورة والبناء المقطعي المعتمد على صورة لا تتكامل بذاتها بل تتواشج مع سطور شعرية أخرى لترتفع بالنص إلى لغة الشعر كما في المقطع الآتي: ليلتي شيخها جبل أخضر يتأهب كي يقيم صلاة العشاء بأشجار سرو عمائمها من غمام... وفي هذا المقطع قفز النص من المألوف إلى الانزياح من خلال ربط علاقات الطبيعة مع رؤية الروح للعالم، فلو فككنا هذا المقطع نجد أن علاقة (الشيخ، الاخضرار، الصلاة، العمامة) تنتمي إلى حقل دلالي متقارب وهو مألوف في علاقاته، لكن النص أزال الألفة في إنتاج علاقات مع حقل دلالي متقارب آخر: (الجبل، أشجار السرو، الغمام)، وكان إحداث الانسجام بين الحقلين قد أنتج صورة ارتفعت إلى الشعرية في نص يعتمد السرد، وهناك أمثلة أخرى على تقنيات الصورة الشعرية عند ابراهيم محمد ابراهيم منها: (صوت نشاز ترهل آخر الليل) وهي صورة مبتكرة في علاقة الصوت بالترهل. على وفق ما تقدم أرى أن الشاعر إبراهيم كان محقاً في اختياره هذا النص لأنه مثل مشروعا شعرياً حقيقياً قوامه إنتاج الشعر من لغة السرد، والانزياح من الألفة وإحداث علاقة تكامل بين المفارقة والصورة ،وهي تقنيات عبرت بشكل حقيقي عن مقدرة شعرية خاصة في المشهد الشعري العربي.
مشاركة :