شدة الإحباط الذي استشعرته في المناظرة الأولى بين المترشحين للرئاسة الأميركية، جعلتني أتعمد تجاهل متابعة المناظرة الثانية، في بثّ مباشر في الساعات الأولى من صباح يوم الجمعة الماضي. هذه المرّة الأولى، التي أتقصد فيها التخلي عن تقليد شخصي رافقني قرابة ثلاثة عقود، تابعتُ خلالها بشغف وحرص مناظرات رئاسية بين مترشحين للرئاسة الأميركية. الانتخابات الرئاسية الأميركية الحالية تتجاوز أهميتها ما سبقها من انتخابات، لأن المترشحين السابقين على اختلافهم، كانوا يتفقون بإجماع على استمرار الدور الأميركي وتعميقه في العالم، وفقاً لما تمليه المصالح الأميركية، من خلال الحرص على تعزيز النظام التعددي الدولي الذي أفرزته الحرب العالمية الثانية، وسيادة السلام العالمي، بتفادي سياسات المواجهة. في هذه الانتخابات تقف أميركا، أقوى دولة في العالم عسكرياً واقتصادياً، على مفترق طرق. وفي حالة تمكن الرئيس الحالي دونالد ترمب من هزيمة منافسه الديمقراطي جو بايدن، فهذا يعني الاستمرار في تنفيذ سياسته التي بدأها خلال السنوات الأربع الأخيرة، والممثلة في تفكيك الجسور التي كانت تربط أميركا بحلفائها، وبغيرهم من دول العالم، والانكماش وراء الحدود، والعودة بها إلى الوراء، وتحديداً إلى التخندق في المواقع نفسها التي عرفتها في العشرينات والثلاثينات من القرن الماضي، بإدارة ظهرها لما يحدث خارج الحدود. تلك السياسة أدت بأميركا إلى تجاهل ظهور الحركتين النازية والفاشية في أوروبا، وسيادة نظام دولي قائم على المواجهة وليس المنافسة، أدى بالعالم إلى كارثة الحرب العالمية الثانية.ومن جهة أخرى، فإن تمكن المترشح الديمقراطي جو بايدن من الفوز بالانتخابات، والسيطرة على مقاليد الأمور في البيت الأبيض لا يعني، في الوقت نفسه، العودة بأميركا إلى النقطة الزمنية التي غادر فيها الرئيس السابق باراك أوباما الحكم. استبيانات الرأي العام، ما زالت تشير إلى تقدم بايدن على منافسه ترمب، لكن الاستبيانات، على أهميتها، عرضة للوقوع في مطبات مما يحدث، عملياً وفعلياً، في مجريات واقع لم يمر بفترة أشد انقساماً مما هو عليه الآن. لذلك، حتى في حالة صدقها، ووصول بايدن إلى الإمساك بمقاليد الأمور، فإن الرئيس الـ46 سوف يجد أن العالم في يناير (كانون الثاني) عام 2021 ليس العالم نفسه الذي تركه في عام 2016. وأن مرحلة السلام الأميركي (Pax Americana) قد ولّت وانقضت، وأن ظهور التنين الصيني الأحمر إلى الواجهة، جعل من الصعوبة بمكان استمرار النظام التعددي الدولي السابق، من دون أن تبدو في الأفق، حتى الآن، أي ملامح لنظام دولي بديل يضمن عدم تحول بلدان العالم إلى ميادين لحروب لا تنتهي. وفيما يخص أوروبا، فإن مياهاً كثيرة جداً جرت تحت الجسور، آخذين في الاعتبار تأثيرات ما أحدثته سياسة الرئيس ترمب منذ عام 2017 من توترات في علاقة أميركا بحلفائها الأوروبيين، ما ساعد على ظهور وانتشار الحركات الشعبوية، ووصولها إلى السلطة، في دول غرب أوروبا خلال السنوات الماضية، وتزايد قوة اليمين المتطرف وتمكن بعض فصائله من دخول البرلمانات، أضف إلى ذلك الانقسام الذي يمر به الاتحاد الأوروبي، وما سببه خروج بريطانيا من تداعيات سلبية، إلى جانب تزايد قوة ونفوذ أحزاب في عدة بلدان مثل المجر وبولندا تقودها نزعة مناوئة لليبرالية. وأخيراً، تأثيرات أزمة الوباء الفيروسي على كل الأصعدة، خصوصاً دوامة الأزمة الاقتصادية، التي أحدثتها، وتأثيراتها المحتملة على تصدع البناءات الاجتماعية وتداعياتها، وما شاهدناه خلال الشهور الماضية من تبني سياسات مرتبكة، غير متوقعة، تمثلت في إجراءات احترازية صحية أدت ببعض دوله إلى إغلاق حدودها بشكل أحادي، في حين أن أخرى حظرت تصدير أدوية إلى جاراتها.ليس بإمكان أحد تجاهل أهمية ما سيحدث يوم 3 نوفمبر (تشرين الثاني) 2020 في أميركا، لأن مخاطر ما سينجم عن ذلك غير مسبوقة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وانبثاق النظام الدولي الجديد بقيادة أميركا. ووفقاً لتقارير إعلامية، فإن المحيطين بالمترشح الديمقراطي بايدن يعتقدون أن طريق العودة بأميركا إلى خط سيرها السابق للمرحلة الترمبية لن تكون صعبة، وأن الإدارة الجديدة ستعمل على إعادة تشييد ما دُمر من جسور مع الحلفاء، وستملأ، من جديد، الفراغ الذي تركته في مناطق عديدة من العالم. وجهة النظر هذه، لا تأخذ في اعتبارها أن الناخب الأميركي قد لا يكون معنياً بالعودة المأمولة تلك، نظراً لما تكلفه من أثمان باهظة ودماء، لكنه أكثر حرصاً على أن يرى الإدارة الجديدة تهتم بتحقيق أولوياته ممثلة في إعادة دوران عجلة الاقتصاد، عبر علاج ما أحدثه الوباء من أضرار.العالم حالياً، رغم دوامة الوباء الفيروسي وتداعياتها، لا يرفع أعينه عما يحدث في أميركا، ويعيش في حالة انتظار وترقب لما ستسفر عنه المنافسة، وأي أميركا ستبرز منها. والناخبون الأميركيون، وفقاً للتقارير، يقفون، كل يوم، في طوابير طويلة، وبأعداد غير مسبوقة، أمام مراكز الاقتراع للإدلاء بأصواتهم، وأكثر من أربعين مليوناً منهم قد قاموا فعلياً بالتصويت، شخصياً أو بالبريد، وهذا في حد ذاته دليل على الأهمية التي تحظى بها هذه الانتخابات، سواء على المستوى المحلي أو الدولي.
مشاركة :