تحتاج الأفكار، حتى ترسخ وتمشي على الأرض ويعتنقها الناس، إلى مؤسسات أو هيئات أو تنظيمات تحملها، وتحولها إلى إجراءات قابلة للتطبيق في الواقع المعيش، وإلا ظلت مُحلقة في أفق بعيد، لا يلمسه الناس، ولا يؤثر فيهم كثيراً. وهناك أفكار كثيرة تُطرح في نقد التطرف الديني والأيديولوجي على حد سواء، لكنها لا تلبث أن تطير في الهواء، لأنها لا تجد من يحولها إلى إجراءات عملية على الأرض لها قوة الرسوخ والانتشار والتمدد والفاعلية. وقد ملأ مثقفون الدنيا ضجيجاً في مطالبتهم ببناء ثقافة مدنية تستوعب، لا تستبعد، وتصنع للمجتمعات أمنها الطوعي، لكن قلة هي التي طرحت تصورات قابلة للتطبيق في الواقع، من شأنها أن تساعد على تحقيق هذا الهدف. من أجل هذا، أقترح في هذا المقام عدة إجراءات من شأنها أن تساعد الثقافة في مواجهة التطرف والتعصب، على النحو التالي: 1 ـ بناء مجمعات صغيرة للثقافة، أو تعزيز نشاط المتواجد منها، وتكون هذه المجمعات وسط الأماكن السكنية، حتى يجد الشباب سهولة ويسراً في الوصول إليها والتعامل معها واعتياد الذهاب إليها، على أن تقوم المدارس والجامعات بلفت انتباه التلاميذ والطلاب إليها، ووضع برنامج للتعاون معها. 2 ـ يتطلب ما سبق أن تكون القراءة أو المطالعة جزءاً أساسياً من المساقات الدراسية، بدءاً من الصف الأول الابتدائي وحتى نهاية المرحلة الثانوية، على أن يُعدَّ المعلمون لأداء هذه المهمة، وتزود المدارس بمكتبات ثرية بألوان من المعارف والآداب التي تم اختيارها بعناية. 3 ـ يمكن تطبيق تجربة «مسرح الجرن» في مصر، التي كنت من المشاركين فيها، حيث تم تجريبها لمواجهة الفكر المتطرف، وهي عبارة عن مشروع يهدف إلى تنشيط الفنون والآداب والفلكلور في المدارس الابتدائية والإعدادية، ويتم من خلال التعاون بين وزارتي الثقافة والتعليم، فحين طبق المشروع على مدارس قرى معروفة بتركز وجود الجماعات الإسلامية المتطرفة فيها لاقت نجاحاً مبهراً، رغم أنه وجد مقاومة في البداية من قبل التلاميذ والطلاب، بدعوى أن كل الفنون حرام، ومع الوقت بات هؤلاء يرسمون ويعزفون موسيقا، ويكتبون شعراً وقصصاً ومقالات، ويمثلون مسرحيات، ويبدعون فناً شعبياً هو ابن بيئتهم، ويعملون كل هذا بإقبال شديد. 4 ـ يجب أيضاً الاهتمام بالمنتج الثقافي للأطفال، فبعض أعضاء الجماعات الدينية المتطرفة اعتمدوا على هذا الأسلوب في جذب الأطفال إليهم، وتمهيدهم للدخول في الجماعة، أو قبول أفكارها والتعاطف معها، ولهم دور نشر معروفة تساعد في أداء هذه المهمة. ومواجهتهم يجب أن تتم في هذا الإطار وعند هذه السن المبكرة. ولا تكفي في هذا المضمار المجلات الثقافية، بل يجب تشجيع الأدباء الذين يكتبون للأطفال وإقامة دور النشر التي تنشر أعمالهم بأسعار مناسبة. 5 ـ يجب تشجيع منتجي الفنون والآداب في المجتمع وتقديمهم باعتبارهم أشخاصاً جديرين بالاحتفاء وأن ما يكتبونه هو عمود أساسي، ليس في مواجهة التطرف والغلو والتشدد الديني، بل في تعزيز «القوة الناعمة» للدولة، بشكل عام. ويتطلب هذا بالأساس اعتماد ميزانيات كافية لصناعة ثقافة حقيقية. 6 ـ من الضروري تنظيم مسابقات ومنافسات مجزية في التأليف لطلاب المدارس، والشباب فيما بعد، حول قضايا محددة تعزز «التنوير» وتُعلي من شأن الاعتدال الديني. في كل الأحوال لا يجب التعامل مع الثقافة كقلائد للزينة، إنما هي وسيلة لبناء الإنسان وتشكيل معارفه وقيمه واتجاهاته، ومن ثم النهضة بالمجتمع برمته.
مشاركة :