قلب موهوب «يرمم» حياة امرأة ويبقي الميت حاضراً

  • 8/12/2015
  • 00:00
  • 6
  • 0
  • 0
news-picture

هل يمكن أن تخرج رواية من «عملية» نزع قلب من صدر شاب توفي «سريرياً» وزرعه في صدر امرأة بعد استئصال قلبها المريض؟ هذه الجراحة المزدوجة التي كانت خلال بضعة أعوام، من أخطر الجراحات وأشدها تعقيداً، تمكنت الكاتبة الفرنسية ماليس دو كيرانغال أن تستوحي منها رواية بديعة عنوانها «ترميم الأحياء» عرفت نجاحاً كبيراً في فرنسا والعالم الفرنكوفوني وترجمت إلى لغات عدة بعدما حصدت جوائز عدة. هذه الرواية التي صدرت عن دار فيرتيكال، سرعان ما نُشرت في سلسلة كتاب الجيب (فوليو-غاليمار) حاصدة رواجاً هائلاً. رواية تتفرد في موضوعتها (تيمتها) الغريبة وفي بنائها البسيط والمعقد في آن، وفي شخصياتها الموغلة في ذاتيتها وواقعيتها، وفي جوّها الجامع بين المشاعر الداخلية وروائح المستشفى. كم أصابت الكاتبة في اختيار عنوان روايتها «ترميم الأحياء»، فهذا العنوان المؤثر هو من المقولات الأشد رواجاً اليوم في عالمنا والأكثر تعبيراً عن المأساة التي تعيشها شعوب، هنا وهناك. لم تعبأ الكاتبة بعبارة «دفن الموتى» (العبارتان وردتا في مسرحية انطون تشيخوف «بلاتانوف») مقدار انشغالها بـ «ترميم» قلب إحدى شخصياتها المريضة (كلير ميجان)، ولكن من دون أن تهمل جثمان الشاب الميت (سيمون ليمبر) فجعلت الممرض المولج بأمر الجثمان، يغسله ويهيئه للدفن، بعدما استأصلت منه أعضاء عدة (القلب، الرئتان، الكليتان والكبد) لتمنح إلى أشخاص مرضى يفتقرون إليها. وتكتب الروائية كأنما على لسان أم الشاب التي تُدعى ماريان: «قلب سيمون يهاجر إلى مكان آخر في البلاد، كليتاه، كبده ورئتاه باتت في مقاطعات أخرى، انسلت إلى أجساد أخرى». أما المقاطعات أو المدن فهي: ستراسبورغ (فتاة في السادسة حصلت على الكبد)، ليون (شابة في السابعة عشرة حصلت على الرئتين)، روان (فتى في التاسعة حصل على الكليتين)... وكانت الأم والأب (سيان) قد ترددا كثيراً في الموافقة على منح أعضاء ابنهما الذي توفي في العشرين من عمره، وعاشا كلاهما صراعاً نفسياً وظلا يرفضان حتى وافقا أخيراً. تقول الأم للممرض «توما» المولج القضية إن عائلتها كاثوليكية وتؤمن ببعث أو قيامة الأجساد من الموت ويجب ألا يقوم الابن الميت من القبر ناقص الجسد: «لا نريد أن ندعه يموت مرة ثانية». وتنتظر الأم من الأب أن يقرر والأب ينتظر الأم، إلى أن يعلن الأب الموافقة. هذه المسألة تشغل فعلاً عائلات كثيرة وبخاصة المؤمنة منها، فهي تجد نفسها محرجة وحائرة أمام مثل هذا القرار، علماً أن عائلات أخرى تؤيد وهب أعضاء موتاها. إلا أن الخوف والحيرة لا يغيبان أيضاً عن السيدة الخمسينية «كلير ميجان» التي كانت تنتظر مثل هذه الفرصة السانحة كي يتم استبدال قلبها المريض بقلب سليم. حين يتصل بها الطبيب ويعلمها أن القلب جاهز، وعليها أن تتهيأ فوراً للجراحة، تشعر بصدمة وتضطرب، فهي ستخضع لجراحة خطرة وقد تواجه إزاءها الموت. لكنّ أسرتها تشجعها على المضي في الجراحة. إنها لحظة حرجة جداً وقد عاشها زميلنا الصحافي اللبناني سمير كامل الذي بكى قبل الجراحة وودع أصدقاءه وكأنه مقبل إلى الموت، ولم تنجح جراحة زرع القلب فمات بصمت. فكرة الزمن تمنح الرواية فكرة الزمن كثير اهتمام حتى ليبدو الزمن هو أحد «أبطال» الرواية مثله مثل الشاب الميت والأم والأطباء والممرضين وحتى المستشفى والقلب... إنها في معنى ما رواية الزمن ليس «المفقود» بل الزمن المهدِّد والمهدَّد، الموجز والكثيف والمحصور في 24 ساعة إلا دقيقة. تبدأ الرواية الساعة الخامسة والخمسين (5.50) فجراً وتنتهي في الساعة الخامسة والتاسعة وأربعين (5.49) من اليوم التالي. لم يكن سيمون الشاب العشريني العائد مع رفيقيه من التزلج على الأمواج في قلب البحر، يعلم أن حادثة سير ستودي به صباح ذاك اليوم، هو المغامر الذي يعشق هذه اللعبة الخطرة . كان قصد البحر باكراً جداً وسط البرد القارس، ومارس هذه الرياضة، مشبعاً عينيه من تلك المناظر الزرقاء والبيضاء، الشاسعة والمفتوحة على المطلق، ومالئاً رئتيه بهواء السماء. وفي طريق العودة تعرض «الفان» الذي كان يستقله مع رفيقيه لحادثة اصطدام بعمود فانقلب وأصيب سيمون مباشرة. في التاسعة والعشرين دقيقة (9.20)، نقل إلى المستشفى في حال من الغيبوبة. في قسم الطوارئ استقبل الطبيب بيار والممرضة كورديليا الشاب الواقع لفوره في حال الكوما. ثم «ساعة مضت، حضر الموت، أعلن الموت عن نفسه». هذا الطبيب وهذه الممرضة سيكونان شخصيتين من شخصيات الرواية التي ستدور بدءاً من هذه اللحظة في المستشفى، فضلاً عن الممرض توما وسائر الفريق الطبي ولا سيما البروفسور هارانغ ومساعده فيرجيليو. الأم ماريان تصل الساعة الثانية عشرة والنصف(12.30)، وعندما يستقبلها طبيب الطوارئ، تسأله بإصرار وريبة وكأنها لم تصدق ما حصل: «القلب؟ أجل، القلب، يجيبها الطبيب». لا يتخطى زمن الرواية الساعات الأربع والعشرين (تبقى دقيقة ناقصة) لكنه زمن على ضآلته (يذكر مثلاً بزمن رواية «اوليسيس» لجيمس جويس) طويل في المعنى الرمزي والقدريّ، وحافل بالوقائع والأفكار والأحاسيس والعلاقات... وخلاله تخرج إلى الضوء «أحوال» الفريق الطبي فيتعرف القارئ إلى ملامح هذه الشخصيات وطبائعها ومعاناتها وإلى تفاصيل من حياتها الشخصية والعاطفية والجنسية المضطربة أحياناً... إنها الأقدار المتقاطعة لأشخاص «حقيقيين» داخل المستشفى يصبحون شخصيات روائية. واللافت في هذا المناخ، المتوتر والمتهادي في أحيان، المشوب بالخوف والقلق والحزن والأمل أو الرجاء، أن ساعة اليد تحتل حضوراً شكــلياً ورمـــزياً ووجـــوديـــاً. الجميع ينظرون إلى ساعة يدهم وكأنها هي الآلة التي «تقرر». حتى حبيبة الشاب الميت جوليات تنظر إلى ساعة يدها التي تشـــير إلى قرابة الساعة الخامسة بعد الظهر وفي ظنها أن سيمون لن يتوانى عن الاتصال. وكان العاشقان شهدا قليلاً من التوتر عشية الحادثة. رواية فريدة في نوعها حقاً، ليس لكونها تدور في مستشفى أو تعالج قضية إنسانية مهمة هي قضية وهب الأعضاء، بل لأنها أيضاً تقدم ببراعة، «التشويق» السردي في صيغة ميتافيزيقية. و «التشويق» إنما يعني هنا مواجهة الموت في كل ما تعني المواجهة، زمناً ووجداناً وقدراً... وبينما ينتصر الموت أولاً عبر سقوط جسد الشاب سيمون، ينهزم في الختام عبر نهوض المريضة كلير التي ينقذها قلب الشاب نفسه. لكنّ القدر في مثل هذه اللحظات لا يسمح للإنسان الحي أن يشكر الإنسان الميت على وهبه أحد أعضائه وهو هنا القلب. لا يكفي أن الكاتبة مايليس دو كيرانغال نجحت في اختيار موضوعة أو قضية روايتها «ترميم الأحياء» بل هي نجحت أيضاً ايما نجاح في معالجة هذه القضية الرهيبة، سواء عبر البناء المحكم للرواية وابتداع تقنية زمنية غير مسبوقة ام في ترسيخ إيقاع سردي يعبر عن فكرة الزمن الوجودي وليس الكرونولوجي او الخارجي فقط، وكذلك في كتابة نص روائي عماده لغة حية وسيالة على رغم التوتر النفسي الذي يشوبها، ولعل هذا ما منح الرواية فرادتها وجمالها وغرابتها كعمل روائي، شعبي ونخبوي في آن.

مشاركة :