قبل عشر سنوات شاركتُ في مؤتمر علمي انعقد في برلين عاصمة ألمانيا حول جدة التاريخية مع ثلة من الزملاء السعوديين من أساتذة جامعة الملك عبدالعزيز وبعض المسؤولين في أمانة محافظة جدة. أقامت هذا المؤتمر جامعة برلين الأهلية وافتتحه سفير المملكة في ألمانيا آنذاك معالي الأستاذ الدكتور أسامة بن عبدالمجيد شبكشي أمد الله في عمره ومتعه بالصحة والعافية. وكانت رئيسة اللجنة المنظمة للمؤتمر المستشرقة الألمانية المعروفة الدكتورة: فرايتاج، وحدث أن صحبتني مع عائلتي في جولة سياحية في برلين، وقفنا فيها على حدود جداربرلين، كما وقفنا عند نُصُب إسمنتية كثيرة تحتل مساحة أرض كبيرة للغاية ولم أفهم معنى هذه النُّصُب، وسألتُها عنها وقالت إنها نُصُب تخلد ذكرى الهولوكوست، أو محارق اليهود، إذ يدعي اليهود أن هتلر كان قد أحرق المئات منهم وربما الآلاف إبان الحرب العالمية الثانية، ويتحمل الألمان حتى اليوم وزر الجرائم النازية المزعومة هذه. فما كان مني إلا أن قلت لها باللغة العربية: كيف تشغلون كل هذه المساحة من أرض برلين بهذه النُّصب التي لا معنى لها وأنتم تعانون من قلة الأراضي الصالحة للبناء في هذه المدينة الصغيرة؟، وكيف تصدقين هذه المزاعم وأنتِ مثقفة ومستشرقة كبيرة؟، فما كان منها إلا أن انتفضت كالعصفور ببلله القطر كما يقال، وقالت لي: أرجوك اصمت ولا تتكلم عن الهولوكوست ولا بكلمة واحدة وإلا ساقونا معاً إلى السجن. قلت لها: يا دكتورة نحن نتكلم بالعربية: هذا أولاً، وثانياً أنتم الأوروبيين ترفعون شعار حرية التعبير. قالت: «نعم نتكلم عن أي شي مهما كان مقدساً إلا عن الهولوكوست وإلا اتُّهمت بالعداء للسامية وهي جريمة لا تغتفر وتُعاقِبُ عليها كل الأنظمة الأوروبية». ورغم أني كنت أدرك هذه الحقيقة تماماً إلا أنني لم أتصور أن تصل سطوة اليهود إلى هذا الحد بحيث يخترقون كل أنظمة الغرب ويفرضون عليهم أن لا يتعرضوا لهذه المسألة أو يشككوا فيها، وما عدا ذلك يمكن التعرض لأي رمز سياسي أو ديني بدعوة حرية التعبير المزعومة. وإن حُقَّ لنا أن نتعلم من أعدائنا، فلابد لنا من وقفة تأمل إزاء ما حصل ويحصل هذه الأيام من التطاول على رسولنا ونبينا وحبيبنا: سيد ولد آدم من قبل جهات رسمية وخاصة في فرنسا وغيرها، بل وصل الأمر إلى تبني الإليزيه هذه الإساءة جهاراً نهاراً على مرأى ومسمع من العالم كله، وذلك يحدث لأول مرة في التاريخ، وبالمقابل كانت هناك ردود فعل غاضبة في العالم العربي والإسلامي ودعوات لمقاطعة المنتجات الفرنسية إلخ. وأقولها آسفاً: إن ردود الفعل هذه سبق أن صدرت مراراً وتكراراً من قبل: منذ نُشرت الرسوم المتطاولة في شارلي أبدو، والتي وقعت بسببها حوادث قتل واعتداءات إرهابية كان آخرها ما حصل للمدرس الفرنسي الذي اعتبرته فرنسا بطلاً قومياً، وفي المحصلة لم يكترث الفرنسيون وغيرهم بردود الفعل بل ازدادوا عتوّاً ونفوراً، ما يعني أن ردود الفعل هذه لم تجدِ نفعاً ولن تجدي نفعاً معهم، فلابد من تغيير إستراتيجيات ردود الفعل دفاعاً عن رسولنا الكريم عليه الصلاة والسلام ومقدساتنا كلها. ومعلوم أن للمسلمين وجوداً كبيراً وقوياً في فرنسا وبقية الدول الأوروبية كما أنهم أكثر ثراءً من اليهود في كل أنحاء العالم، ويمكنهم أن يشكلوا مجموعات ضغط هائلة تخترق أنظمة الغرب كما فعل اليهود واستصدار تشريعات وقوانين تجرِّم التعرض لمقدسات المسلمين بأي صورة تماماً كما فعل اليهود بالهولوكوست، وقتها فقط نضمن توقف هذه الحملات المغرضة ضد الإسلام ، أما القتل وسفك الدماء وسوى ذلك فلن تؤدي إلا للمزيد من العداء للإسلام والمسلمين في الغرب عموماً.وفي الأسبوع الماضي صدر بيان عن الأزهر الشريف في مصر، يدعو إلى سن تشريعات دولية تجرِّم معاداة الإسلام والمسلمين والتعرض لمقدساتهم بأي شكل من الأشكال، وتلك ولاشك خطوة مهمة في الاتجاه الصحيح.
مشاركة :