في «بورتوريكو»، «ميناء الأغنياء» بالإسبانية، أصبحت الأمور أكثر تعقيدا، فخزائن البلاد أوشكت على الإفلاس، والاقتصاد يقترب من الدخول في حالة من «دوامة الموت». ووسط عدم رغبة الشركات والمؤسسات المالية في شطب أي ديون إضافية، أقر «أليخاندرو باديلا» حاكم بورتوريكو بعدم قدرة بلاده على سداد مدفوعات ديون تصل لنحو 72 مليار دولار، التي تتجاوز ديون الولايات الأميركية الأكبر حجمًا باستثناء نيويورك وكاليفورنيا. وفي أعقاب سنوات من الكفاح من أجل الابتعاد عن شبح الإفلاس، تعثرت «بورتوريكو»، وهي إقليم من الجزر تابع للولايات المتحدة الأميركية، للمرة الأولى في الثالث من أغسطس (آب) الحالي، عن سداد ديونها بعدما دفعت مؤسسة التمويل العام نحو 628 ألف دولار فقط من مستحقات المستثمرين البالغة 58 مليون دولار. ومؤسسة التمويل العام هي واحدة من أصل 17 مؤسسة تمويل في بورتوريكو قامت ببيع سندات معفاة من الضرائب، وفقًا لبنك التنمية الحكومية (البنك المركزي). ذلك على عكس البلدان الأخرى التي تُصدر أوراق دين متوسطة وطويلة الأجل بدرجات متفاوتة من المخاطرة وذلك لأنها مدعومة من مصادر مختلفة من الأموال والضمانات القانونية. وتضاعفت ديون بورتوريكو ثلاث مرات في 15 عامًا فقط. ولسنوات طويلة، خلق قانون الولايات المتحدة إعانات ضريبية لديون بورتوريكو، الأمر الذي شجع الطبقة المتوسطة من الأميركيين على الانغماس في إقراض المال للحكومة دون أن يدركوا نتيجة ما يفعلونه. وحاولت حكومة البلاد الاستفادة من هذا الوضع عن طريق اقتراض الكثير من المال؛ لكنها لم تتمكن من استثمار الأموال التي اقترضتها لإنجاز كثير من المشروعات المُضيفة للاقتصاد على المدى الطويل. وبدلا من الاستثمار في مشاريع الأشغال العامة والخدمات الاجتماعية الأخرى التي تضع أسس تحقيق الازدهار الدائم، تم الاستثمار في مجموعة متنوعة من سندات القطاع العام في الولايات المتحدة. ومنذ عام 2006، بدأت بورتوريكو تعاني مجموعة من المحن الاقتصادية تمثلت في الزيادات الضريبية وخفض الإنفاق، وارتفاع أسعار الفائدة، والهجرة، فمنذ عام 2010 إلى عام 2013، غادر نحو 50 ألف شخص سنويًا بورتوريكو لأراضي الولايات المتحدة، وفقًا لمكتب العمل الأميركي. وتعرضت الجزيرة لسلسلة من الصدمات السلبية التي قوضت اقتصادها وجدارتها الائتمانية، ففي العام نفسه، فقدت بورتوريكو مزاياها الضريبية التي كانت لسنوات طويلة مصدر جذب للشركات الأميركية للقيام بأعمال تجارية فيها. ومنذ الأزمة المالية العالمية التي اندلعت في عام 2008، تفاقم الوضع في بورتوريكو مما أدى إلى انخفاض الائتمان للشركات الصغيرة والمتوسطة، وكثير منها انتهى بها الأمر إلى إغلاق أبوابها. ومنذ ذلك الحين انخفض الناتج القومي الإجمالي بشكل كبير (2 في المائة سنويا في المتوسط على مدى السنوات الثماني الماضية)، وفقًا لبنك التنمية المركزي، وارتفع معدل البطالة إلى أكثر من 12.5 في المائة (بعد استبعاد 270 ألف فرصة عمل)، وفقًا لإحصاءات مكتب العمل الأميركي، ووصلت معدلات الجريمة مستويات قياسية. كذلك تعاني قطاعات كثيرة داخل اقتصاد بورتوريكو من ضعف، وأهمها قطاع الزراعة الذي تعتمد عليه البلاد بنسبة 31 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي. فمنذ أخفقت الأمطار الاستوائية المعتادة في فبراير (شباط) الماضي، أعلنت وزارة الزراعة الأميركية أن أكثر من ربع مساحة بورتوريكو أصبحت منطقة كوارث. وفي يوليو (تموز) الماضي، والذي عادة ما يكون أحد أشهر الأمطار، حصلت الجزيرة على أربعة سنتيمترات فقط من الأمطار. والآن، يعيش 2.8 مليون من السكان في جزء من البلد الذي يعاني حالة من الجفاف الشديدة التي تؤثر بدورها على تربية المواشي التي طالما كانت تُدر عائدا مرتفعا للبلاد، وفقا للمركز الوطني للتخفيف من آثار الجفاف. ويقول إيربيرتو مارتينيز، وهو أستاذ مساعد في قسم الاقتصاد في كلية جون جاي في نيويورك، إن «اقتصاد بورتوريكو الباهت هو نتيجة لمجموعة من العوامل قصيرة، متوسطة، وطويلة الأجل تتراوح بين فشل صُنع السياسات إلى حدود جوهرية كونها تعمل في إطار قانوني باعتبارها أراضي الولايات المتحدة». ويضيف مارتينيز في مقالة له بمجلة جاكوبين الأميركية: «بالنظر إلى كل هذه الأبعاد نجد أن بورتوريكو هي نموذج اقتصادي قائم على استنزاف الثروات، حيث الرواتب لا تتطابق مع مستويات الإنتاجية، وكمية كبيرة من الثروة المنتجة والأرباح المتحققة في الجزيرة تتجه للخارج ولا يتم استثمارها في البلاد، ويستخدم الدين لنهب الثروة التي لا تزال في الجزيرة.. في ظل هذه الظروف فإنه ليس من المستغرب أن يدخل الاقتصاد في دوامة مع عواقب اجتماعية وخيمة». وتفاقم مستحقات الديون يجعل بورتوريكو أمام ضرورة حتمية بالبدء في عملية إعادة هيكلة طويلة للديون المستحقة على الجزيرة الواقعة في البحر الكاريبي. ويقول الخبراء، إنه «عندما تواجه المدن والكيانات الأميركية مثل المدن والأحياء والمقاطعات، وشركات المساهمة، مشكلات مالية، يتم إعادة تنظيم ديونها بموجب الفصل التاسع من قانون الإفلاس الأميركي». فعندما تعرضت ولاية «ديترويت»، تقدم الكونغرس الأميركي بالمساعدة، ويستثني قانون الإفلاس الاتحادي على وجه التحديد بورتوريكو، وهو ما يعني أن حكومة الجزيرة مضطرة إلى التفاوض مباشرة مع مجموعة من المقرضين، وجميعهم لديهم متطلبات مختلفة، وبعضهم أوصى بإغلاق المدارس وخفض الدعم الجامعي، وتسريح المعلمين لتسديد الديون. وذكرت صحيفة «نيويورك تايمز» الأميركية الأسبوع الماضي، أن بورتوريكو تستعد لإجراء تخفيضات كبيرة لبرنامج الرعاية الصحية «ميديكير». ومن المتوقع أن تخفض الحكومة الاتحادية خطط الرعاية الطبية بنحو 11 في المائة في يناير (كانون الثاني) المقبل، والنتيجة هي أن عشرات الآلاف من سكان بورتوريكو من المتوقع أن يدفعون مبالغ أعلى مقابل الحصول على خدمات أقل. ووفقا لمحلل السياسات العامة «روبرت روسينكراز»، بورتوريكو في طريقها إلى واحدة من أكبر عمليات التخلف عن سداد الديون في التاريخ، حتى مع المقارنة باليونان والأرجنتين. وروسينكراز، مثل كثير من المراقبين، يقول إن «الاقتصاد قد دخل مرحلة الأزمة.. وإن السوق قد فقدت الثقة في قدرة بورتوريكو على سداد الديون». لكن خوسيه فاجينبريم، وهو خبير اقتصادي في مجموعة «Centenial»، وهي شركة استشارية، يقول: «يمكن أن تتجنب بورتوريكو عملية التخلف المكلفة». وشارك فاجينبريم وزملاؤه في Centenial في كتابة تقرير نيابة عن مجموعة من صناديق التحوط التي تملك حجما كبيرا من ديون بورتوريكو. وتوصل الخبراء إلى أن «الديون على المدى المتوسط هو المستدام»، في حال تم اتباع سياسات التقشف الشديد. وبعد محاولات كثيرة فاشلة في إعادة التفاوض وإعادة هيكلة الديون عبر الآليات القانونية والمؤسسية التي تتطلب طرفًا ثالثًا متخصصًا، تسلمت حكومة «بورتوريكو» دراسة من مستشارين صندوق النقد الدولي (IMF)، نشرت في نهاية يونيو (حزيران) الماضي، من أجل إصلاح هيكل الإنفاق العام في البلاد في سبيل تسديد الديون. واقترح تقرير الصندوق مجموعة من التدابير في جانب العرض، أهمها: خفض تكاليف الإنتاج (خاصة تكاليف العمالة)، وإصلاح قانون الضرائب مع مستويات أعلى على الممتلكات وزيادة الضرائب العقارية، وقطع ميزانية الصندوق العام لحكومة «بورتوريكو». لكن المناقشات الحالية حول دراسة الصندوق ركزت على حقيقة أن غالبية المقترحات للحد من تكاليف الإنتاج وخفض الحد الأدنى للأجور، وإضعاف قوانين حماية العمال، وإعفاء الدولة من قوانين الملاحة الساحلية، جميعها تتعارض مع القوانين الاتحادية التي تحظر الخضوع للوصاية من قبل أي مؤسسة مثل صندوق النقد الدولي. ويرى السياسيون في «بورتوريكو»، أن توصيات الصندوق بتطبيق سياسة التقشف الشديد ورفع معدلات الضرائب لن تكون كافية لانتشال اقتصاد الجزيرة من عثرته. ويبرهن الساسة على رأيهم بما وصلت إليه اليونان التي يواجه اقتصادها الآن قائمة مخيفة من دفعات القروض المُستحقة للدائنين.
مشاركة :