وضعت خسارة دونالد ترامب الرئاسة في الولايات المتحدة نهاية لكابوس طويل. النرجسية الفائقة، واللغة غير المهذبة، والسلوك الفظ، لم تكن مجرد سلوكيات فرد. لقد كانت سياسات تتجند لتنفيذها كل قوة الولايات المتحدة. وما لم يكن بوسع ترامب تنفيذه من خلال القانون، فقد سعى الى تنفيذه بمراسيم حتى أصبحت علامة فارقة من علامات رئاسته. يترك ترامب وراءه إرثا بشعا. ابتداء من الخروج من اتفاقية المناخ، ومرورا بحروب تجارية على عدة جبهات، وتصديع الأطلسي، وإهانة العديد من الحلفاء، ووصولا الى وقف أعمال البعثة الفلسطينية في الولايات المتحدة و”صفقة القرن”. كان العالم كله يقف على حافة “تويت” من تغريدات ترامب. بعضها كان يبدو من الحماقة بحيث أنه صار يتطلب من تويتر إصدار تحذيرات منها. أما الكذب، فقد كان بمثابة “طبيعة ثانية” له. وفي الواقع، فإنه كان يكذب على نحو تلقائي وعفوي تماما. ولم يعرف التاريخ الأمريكي رئيسا يكذب بعدد أنفاسه مثل ترامب. في مطلع رئاسته، كان يمكن للمرء أن يتخذ من وجوده في البيت الأبيض دليلا على عظمة الشعب الأمريكي. فقد كان بالوسع القول إن هذا الشعب يستطيع أن يضع مُهرجا في أعلى منصب من مناصب المسؤولية، من دون أن يؤدي ذلك الى انهيار البلاد أو تراجع مكانتها في العالم. سوى أن ترامب كما أثبتت السنوات الأربع الماضية ظل قادرا على أن يفرض ذلك التراجع، بسلوكه الشخصي وحده. شيء واحد، يقتضي إنصافه فيه. هو أنه واصل سياسات الضغط على إيران، وفرض عليها عقوبات، وأجبرها على أن ترزح تحت عبء أعمالها الشريرة في المنطقة. لم يجرؤ على أن يندفع الى حرب للإطاحة بنظام الملالي، إلا أن الحروب لم تكن على جدول أعماله من الأساس. ولكنه امتلك الشجاعة الكافية لكي يتخذ قرار قتل أحد أبرز رؤوس الشر في إيران، هو قائد فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني، قاسم سليماني، مهندس كل أعمال وجرائم المليشيات التابعة لإيران في المنطقة. هذا هو الشيء الوحيد الذي يمكن أن يبقى ناصعا في ذكراه، وسط لوحة ملوثة بكل شيء آخر. كونه صهيوني الهوى، لم يكن مجرد استخذاء تلقائي حيال نفوذ إسرائيل. لقد كانت إسرائيل بالنسبة له بمثابة “إيمان” قائم بذاته. وهو ما نجح رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو في استغلاله الى أقصى حد، حتى انتهى الأمر الى نقل السفارة الأمريكية من تل أبيب الى القدس، في تحد صارخ للمقررات الدولية الخاصة بوضع هذه المدينة المقدسة. يرث الرئيس المنتخب جو بايدن وضعا كارثيا على مستويات وباء كورونا، والركود الاقتصادي، والعلاقات المتدهورة مع الحلفاء، وعدة ملفات خارجية ضاغطة أخرى، مثل الملف الفلسطيني، والملف النووي مع إيران، وأعمال تركيا الاستفزازية في شرق المتوسط، والنفوذ الروسي في سوريا. ولسوف تأخذ القضايا الداخلية القسط الأكبر من اهتمامات بايدن على امتداد أشهر طويلة، بعد العشرين من يناير المقبل عندما يتسلم مفاتيح البيت الأبيض. شخصية بايدن الأكثر تماسكا، تجعل من السهل الاعتقاد أنه يمكن أن يتبع سياسات حصيفة أكثر. ولكن شيئا من هذا غير مضمون في ثلاثة ملفات على الأقل. الأول: ملف الاتفاق النووي مع إيران أي تراخ في متابعة سياسة أقصى الضغوط، سوف يسمح لإيران بأن تتحول الى قوة عدوان أكثر شراسة من كل ما عرفناه حتى الآن. والولايات المتحدة التي سعت في عهد الرئيس باراك أوباما (ومن تحت أنف نائب الرئيس في ذلك الحين) أن تهادن إيران، انتهت الى أن تخسر نفوذها في كل مربع احتلته إيران في العراق وسوريا ولبنان واليمن. هذا كابوس آخر سوف يُطبق على صدر المنطقة لوقت طويل إذا تكررت المهادنة. والثاني: ملف الصراع الفلسطيني الإسرائيلي لا شك أن بايدن سوف يتخذ موقفا أكثر إنصافا، من الناحية الكلامية، حيال الحقوق والمطالب الفلسطينية. كما أنه سيعيد فتح الممثلية الفلسطينية في واشنطن. ولكن ذلك لا يضمن تقدما على مسارات التفاوض، ولا الحلول النهائية. الفلسطينيون شبعوا كلاما. والأوروبيون لم يقصّروا في بيع التأكيدات على التمسك بالمرجعات القانونية الدولية. إلا أن ذلك لم يُسفر عن تقدم حقيقي، طالما بقيت إسرائيل خارج دائرة الضغط. وإدارة بايدن لن تضغط على إسرائيل بما لم تفعله إدارة أوباما. هذا كابوس آخر، يمكن أن يعني بقاء الأزمة مفتوحة للانكسارات التي يدفع ثمنها الفلسطينيون. أما الثالث: فهو العدوانية التركية الناشئة في شرق المتوسط وليبيا وسوريا فما لم يتوفر إطار ما، يُلزم الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بالكف عن شروره وتدخلاته، فإن الصداع الذي تعانيه المنطقة سوف يظل مصدرا لكابوس إضافي. كوابيس ترامب كانت الى حد بعيد كوابيس سلوكية تتعلق بنرجسيته الخاصة. أما كوابيس بايدن فقد تكون أخطر لأنها، مثل شخصيته، “أكثر تماسكا”.
مشاركة :