أنقرة - تعيش تركيا على وقع أزمة لم تعد صامتة داخل حكومة الرئيس رجب طيب أردوغان الذي يبحث منذ أشهر عن حل يُنهي موجة من الاضطرابات المالية ناجمة عن هبوط لم يفارق الليرة إلا في مرّات نادرة، فنظرية المؤامرة الخارجية التي تستهدف ضرب الاقتصادي التركي والتي سوق لها أردوغان مرارا، لم تعد مقنعة وكان لابد من ستار آخر لمداراة حجم الاخفاقات الاقتصادية المتتالية باستثناء بعض القطاعات التي لم تطلها التدخلات السياسية.وأصبح واضحا أن العلّة ليست في الأشخاص بقدر ما هي في السياسات، فإقالة محافظ البنك المركزي والتي تلتها استقالة وزير المالية بيرات البيرق وهو صهر أردوغان لم تأت من فراغ وإنما هي نتاج فشل منظومة كاملة حاول الرئيس ترسيخها وهي أيضا ليست حدثا معزولا عن تجارب سابقة انتهت كلها إلى الفشل.وتحيل هذه التطورات إلى المعارك التي خاضها أردوغان مع البنك المركزي قبل سنوات قليلة حول سعر الفائدة مخالفا كل النظريات العلمية الاقتصادية وأراء الخبراء وهي المعركة التي انتهت بإقالة كل المعارضين داخل المركزي التركي لرأي الرئيس وتدخلاته في السياسة النقدية.وسبق لأردوغان أن قدم نفسه علنا كخبير اقتصادي في تفصيل علل الاقتصاد التركي بداية بسعر الفائدة وصولا إلى المؤامرة الخارجية لضرب انجازاته الاقتصادية، وهي الذرائع التي سقطت مع تواصل الانهيار القياسي في قيمة العملة الوطنية.وعود على بدء كانت استقالة وزير المالية وهو من أقرب المقربين للرئيس لجهة المصاهرة والانتماء الحزبي، أوضح إشارة على حالة الانسداد السياسي والاقتصادي.والوضع الراهن داخل حكومة أردوغان كان متوقعا على الأقل بين الأوساط السياسية التركية التي عايشت عشرية تميزت بطفرة من النمو الاقتصادي وتعايش اليوم بداية الانهيار.وبدأت حالة الإرباك السياسي مع انشقاقات داخل حزب العدالة والتنمية الحاكم على خلفية النزعة التسلطية للرئيس التركي وعلى خلفية سوء الإدارة الاقتصادية والسياسية بما خلق مناخا طاردا للاستثمارات وبما سمم علاقات تركيا الخارجية حتى مع شركائها التجاريين. وتنسجم هذه القراءات مع رأي المعارضة الرئيسية في تركيا التي اعتبرت أن استقالة وزير المالية بيرات البيرق في بيان عبر 'إنستغرام' كانت غير مسبوقة وتصل إلى حد "أزمة دولة"، منتقدة في الوقت ذاته العزل المفاجئ لمحافظ البنك المركزي.ويذهب توصيف زعيم حزب الشعب الجمهوري كمال كيليجدار أوغلو للأزمة الراهنة إلى أبعد من مجرد قرارات ارتجالية، مشيرا إلى أن أردوغان المدفوع بطموحات سلطوية وتسلطية، كان "يدير البلاد مثل شركة عائلية" وأن إقالة محافظ البنك المركزي تُظهر أن المؤسسة المالية التي يفترض أنها المسؤولة عن السياسة النقدية "فقدت استقلاليتها".وكانت استقالة وزير المالية مثيرة للغرابة، حيث لم تُبلغ أي جهة إعلامية أو حزبية بقرار الاستقالة التي جاءت في بيان على منصة للتواصل الاجتماعي ولم تصدر عن أي جهة حكومية. وفي وضع بيرات البيرق فإن الأمر مثير بالفعل ويستدعي أكثر من سؤال فالرجل ليس شخصية سياسية عادية، فهو صهر الرئيس وهو مهندس السياسات المالية والاقتصادية وهو ظل الرئيس.وقال كيليجدار أوغلو إنه من المخجل ألا تُبلغ أي وسيلة إعلامية تركية كبرى عن الاستقالة في غضون 24 ساعة تقريبا.والاستقالة التي تم تسويقها تحت عنوان "أسباب صحية" بدت غير مقنعة للرأي العام التركي وللخبراء من متابعي الشؤون التركية منذ تولى حزب العدالة والتنمية الحكم ويبدو أنها ردّ فعل على تعيين أردوغان والد زوجته ناجي أغبال الذي تولى في السابق حقيبة المالية، ليحل محل محافظ البنك المركزي المقال مراد أويسال.والمشهد الذي بدأ يتشكل لتوه يُظهر ملامح خلاف بين المقربين من أردوغان ربما لجهة التموقع السياسي والنفوذ سواء داخل العائلة أو في الحزب أو في الدولة، لكنه أيضا يُكّمل حلقة كانت مفقودة لفترة منذ اجتاحت الاستقالات حزب العدالة والتنمية ورسمت من بعيد خارطة سياسية في طور التشكل مع أحزاب وليدة من رحم العدالة والتنمية تسعى للتحالف أو التعاضد لعزل الرئيس أو أدناها إحداث توازن سياسي وكبح نزعة التفرد بالحكم.وسبق أن شغل البيرق منصب وزير الموارد المائية والطاقة من 2015 وحتى 2018، وتسلم حقيبة وزارة المالية والخزانة عام 2018 وعاشت الليرة في عهده أسوأ فتراتها متقلبة بين هبوط وآخر فما أن تنتعش قليلا حتى تنهار إلى قاع عميقة.وغير بعيد عن رأي حزب المعارضة الرئيسي، سلط رأي أحمد داوود أغلو زعيم حزب 'المستقبل' وهو من كبار المؤسسين المنشقين من حزب العدالة والتنمية وممن كانوا من صناع القرار السياسي في دولة أردوغان، ليؤكد وجاهة قيادة الأخير للبلاد بمنطق العائلة والقبيلة.وقد اعتبر داوود أغلو الذي كان رئيسا للوزراء وقبلها وزيرا للاقتصاد وشغل مناصب حساسة في الدولة والحزب، طريقة إعلان وزير المالية بيرات البيرق عن استقالته من منصبه أنها تعيد تركيا إلى "النظام القبلي".وقال "الأحداث التي شهدتها تركيا مساء أمس الأحد توجب عليها تغيير النظام السياسي القائم الذي يحول سياسة الدولة وأجهزتها إلى مفهوم قبلي"، مضيفا "ندعو إلى إقرار نظام برلماني قوي وندعو الجميع إلى متابعة البيان الذي سننشره خلال اليوم".وربما يُفسّر موقف المعارضة التركية على أنه استثمار سياسي لاستقالة أو إقالة أردوغان لصهره، لكن الوضع واقعا وممارسة يذهب في اتجاه ما ذهبت إليه المعارضة ويعزز سيناريو الإرباك السياسي.والمحصلة أن العلّة ليست في الأشخاص بل في السياسات وأن تغيير وجه بآخر لن يساهم في معالجة الأزمة بشقيها الاقتصادي والسياسي.
مشاركة :