بدأ البحث عن الجمالية من سقراط في سؤاله عن ماهية الجمال، وأكمله تلميذه أفلاطون في محاوراته مع فايدروس، ولا ننسى أن التفلسف بدأ من الشعر الذي يعتبر أسبق الكائنات الكتابية بل هو أسبق من الكلام ذاته كما يرى هايدجر، فأقدم الملاحم الشعرية كانت عبارة عن تأملات وجودية للآلهة والكون تجلت في ملاحم هوميروس: الإلياذة والأوديسة، وهزيود وأوفيد في تحولاته، والشاهنامة والمهابرتا الهندية، والكوميديا الإلهية لدانتي، ورسالة الغفران لأبي العلاء المعري ولزومياته الفكرية. في عام 1935 / 1936م قدم فيلسوف الكينونة والزمان محاضرات عن هولدرلين، وماهية الشعر كما يذكر في كتابه أصل العمل الفني، ولم يقتصر على تحليل ماهية الشعر، وفهم ماهية اللغة ابتداء من ماهية الشعر، بل حاول الكشف عن النظرات الفلسفية العميقة، كتب عن ريلكه الذي قال عن مراثيه: إنها تتضمن الأفكار الأساسية لفلسفته في قالب شعري، وحينما قامت الحرب العالمية الثانية ظل يحاول بصورة حاسمة إيجاد أساس مشترك بين الفكر والشعر والفن حيث الشعر والفكر كلاهما واحد، ولا يستطيع الحديث عن العدم إلا الفلسفة والشعر كما يدعي هايدجر وهو ينصح المشتغلين بالفلسفة بالاستفادة من قدرة الشعراء على التفلسف، وقد اهتم بقصائد هولدرلين وريلكه وستيفان جورج، واعتبرهم مخلصاً للإنسان من عدمية عصر التقنية الذي تتلاشى فيه القيم الروحية للإنسان. يقول: «المفكر يقول الوجود، والشاعر يذكر المقدس، بعد مرثية هولدرلين على الشعراء أن يعثروا على الأثر الإلهي في زمن الشدة، جوهر الفن هو الشعر، ولكن جوهر الشعر هو وقف الحقيقة»، «فن الشعر ليس سوى تصميم منير للحقيقة»، «اللغة بيت الكينونة» «الوجود يتحدث عن طريق الإنسان بواسطة اللغة فهو لايتكلم اللغة بل هي التي تتكلمه»، «اللغة ليست كافية في قدرة الإنسان، لأن الإنسان لا يفكر بداخلها وإنما هي تفكر بداخله الكينونة والجمال أصل الوجود والفن هو جوهر الشعر» هذا مايقوله فيلسوف الشيء و الكينونة والشعر للدرجة التي يقول فيها «إذا كان الفن في جوهره شعراً، فيجب أن ينسب فن العمارة، وفن التصوير، وفن الموسيقى إلى فن الشعر»، «الفن يحدث بوصفه شعراً» وهو الذي كان في يوم ما شاعراً، لكنه هرب من الشعر ليعوض عنه بشعرية الفكر والوجود كما طرد أفلاطون الشعراء من جمهوريته ولكنه لم يستطع أن يطرد الشعر من مخيلته الفلسفية؛ لذلك عوض الجمالية التي افتقدتها طاقة الشعر في زمانه والتي كان فيها الشعر مقلداً لنماذج هوميريوس وهزيود وتمجيداً للأوثان والسفسطة إلى شعرنة الفكرة في حوارياته التي استطاعت أن تتجاوز الزمن دون أن يتجاوزها الزمن حتى الآن ولعلها لعنة من لعنات الشعر الميثولوجية. أكاد أقول لا يوجد فيلسوف في تاريخ الفلسفة لم يتورط بالرؤية الجمالية، ولا يوجد شاعر في التاريخ لم يتورط بالفلسفة، فيلسوف القطيعة الإبستمولجية على سبيل المثال غاستون باشلار يلفتك بالنزعة الجمالية والتنظير لها على مستوى الكتابة الفلسفية والفكرية، بل تجد الشعرية تتفتق في كتاباته ومولفاته وهو المحلل النفسي للجماليات، بدأ فيلسوفاً رياضياً وانتهى جمالياً، وفي تحليلي الشخصي هؤلاء الفلاسفة والمفكرون يعبرون من الفكر إلى الجمالية المتجهة إلى الفكر والوجود. أما القسم الآخر فهو ينطلق من المنطقة الجمالية إلى المنطقة الفكرية باتجاه شعرية الأفكار، وكلاهما يلتقيان عند المنطقة الجمالية تلك التي تلهم الفلاسفة والفنانين ما بقي الجمال والإبداع. نيتشه يعتبر أيضاً أول فيلسوف في تاريخ الفلسفة استطاع أن يجمع بين النص الفلسفي والنص الشعري بشكل مذهل لا ينفصل عن بعضه، علما بأن الشعب الألماني يعتبرون حتى نصوص نيتشه الفلسفية ضمن التقاليد الشعرية الراسخة. يعتبر مبتكراً لما يسمى حالياً الومضة وما الواقع الرقمي المتمثل في «تويتر» إلا نموذج نبوئي للنص الشذري الذي ابتكره الفيلسوف الألماني نيتشه، والذي يتميز بالكثافة والاختزال، الآن نبوءاته تتحقق ضمن النموذج النيتشوي العابر للفلسفة من الفيلولوجيا؛ حيث يتحول النص الفلسفي لديه إلى بنية لغوية تحمل اللغة الشعرية مضافاً إلى القيم الفلسفية بشكل لم يعهده الفلاسفة من قبل. فيلسوف التشاؤم والشعر إيميل سيوران أيضا جاءت شذراته الفلسفية بأجمل صيغة شعرية تعبر عن روحه العظيمة كما نلمحها في كتبه التالية: مثالب الولادة، تاريخٌ ويوتوبيا، المياه كلها بلون الغرق فأتت كتاباته على شكل شذرات شعرية فلسفية.
مشاركة :