من أبرز التناقضات الصارخة، التي تعيشها الثقافة العربية المعاصرة في مجالاتها المختلفة، انخفاض مستوى الآداب والفنون مقارنة بناحيتين، الناحية الأولى تخص الداخل من الثقافة العربية، وهي الفلسفة بينما الناحية الأخرى تخص الآداب العالمية.وحتى نقطع أي التباس في مسألة المقارنة ومدى ارتباطها بفكرة التناقض، نطرح التساؤل التالي:ما معنى أننا إلى الآن -باتفاق أغلب النقاد- لا نملك نظرية نقدية حديثة وثيقة الصلة بالتراث، في مجال الأدب والفنون؟منذ عصر النهضة والاجتهادات النقدية لا تتوقف، فهناك خط من النقاد الباحثين في التاريخ النقدي والشعري، المشغولين بتحقيق كتب التراث (وهذا في حد ذاته عمل جبار ومهم، في طريق الاستنارة بالتراث ووصله بحاضر الثقافة المعاصرة). وهناك خط آخر من النقاد، الذين انشغلوا باستجلاب النظريات النقدية الغربية، واستنباتها في تربة النصوص الأدبية والجمالية، في تطبيق لا يراعي فيه شروط اختلاف البيئات والأمكنة والأزمنة، الثقافات وقيمها، بالرغم من وجود شروط الهيمنة الحضارية للثقافة الغربية، التي لا فكاك من التعامل معها، ولا فكاك من التأثر بها.لكن كلا الخطين لم يحققا ولم يفضيا إلى تلك القفزة الحضارية الأصيلة، التي تضع ثقافتنا على سكة القطار الذاهب إلى العالمية، ومن ثم التأثير فيه.وهل ضياع بوصلة القفزة فيما يخص النظرية النقدية له ارتباط مباشر بقوة الشعر التراثي وطغيانه في علاقتنا الاجتماعية والثقافية والتربوية والسياسية، مما جعله -من جانب- القيمة الكبرى، التي تمثل الشخصية العربية التاريخية من العمق كما يذهب بهذا الرأي أحد النقاد الكبار، ومن جانب آخر جعله لا يستطيع النهوض إزاء هذه القوة الجارفة؛ كي يتطور ويصيبه تحولات الأشكال الشعرية وفق تطور المجتمعات وتحديثها، كما جرى في آداب بقية المجتمعات الغربية وغيرها؟بالطبع هناك أسباب غير مباشرة كثيرة تعضد مقولة ثبات الشكل الشعري طول القرون الفائتة، حتى في وجود ما كان يسمى بعصر الرومانطيقي والإحيائي والحداثي.لكن بالمقابل -وهنا نصل إلى نقطة التناقض- هناك اجتهادات فلسفية منذ عصر النهضة استطاعت أن تضعنا أمام قفزات وليست واحدة في طريق الإقلاع الحضاري، من يوسف كرم إلى عبدالرحمن بدوي إلى زكريا إبراهيم ومحمد عزيز الحبابي إلى المعاصرين ناصيف نصار صاحب مقولة الاستقلال الفلسفي.هؤلاء وغيرهم من أصحاب المشاريع التنويرية قدموا ما يشبه الرافعة للإقلاع الحضارية، الرافعة لكل المجالات المعرفية الأخرى في الثقافة العربية: الشعر والفنون والدين والسياسة. لكن للأسف لم يتطور ولا مجال من هذه المجالات كما هو النص الفلسفي، كما هو حال قرينه في الفكر الفلسفي الغربي، الذي لم يترك مجالا من مجالات المعرفة إلا وكان له أثر يذكر حتى أدق تخصصات الطب دخل في تركيب دراساتها.عندما نتساءل: هل بسبب كون الاجتهادات الفلسفية كانت ضمن دوائر نخبوية ضيقة لم ترتبط بعموم حياة الناس، أم أن التحولات المفصلية، التي تنشدها ثقافتنا المعاصرة لم يحن أوانها بعد؛ لأن اشتراطاتها التاريخية لم تنضج؟قد يكون مثل هذا القول صحيحا من وجهة الظروف الاجتماعية والسياسية والدينية لمجتمعاتنا العربية. لكن الواقع التاريخي للحداثة والتحديث الاجتماعي يقول إن عناصر تحديث المجتمعات لا تنهض واحدة بعد الأخرى في تتابع سببي، بل عادة ما تكون محايثة، فالعلمانية تطورت في مسار يختلف نوعا عن مسار العقلانية، وهكذا في بقية المجالات.لكن سرعة تطور المسارات جعلت الفجوات ضئيلة، وبالتالي التداخل والتأثير أصبح في حكم المؤكد، هذا ماحدث للثقافة الغربية.وعليه هل بإمكاننا القول، إذا ما تقلصت الفجوات مع تزايد حراك التحديث بين مسار معرفي وآخر في ثقافتنا العربية المعاصرة، أن نرى أثر الاجتهادات الفلسفية على تطور النظر إلى الشعر، وبالتالي على شعرائه ؟!@MohammedAlHerz
مشاركة :