هل يمكن أن تكون هناك مُبالغةٌ في نقدِ واقعنا، بحيث تفقد عملية النقد معناها الحقيقي، وتتحول إلى هدفٍ بحد ذاتها، وفق مقولة النقد لمجرد النقد؟ هذا ممكنٌ دوماً على مستوى بعض الأفراد الذين يُمارسون تلك العملية، والأسباب المُحتملة وراءه عديدة، تتراوحُ من غَلَبة التفكير السلبي على أصحابها شخصياً، إلى افتقادهم القدرة العِلمية والفكرية على تجاوز النقد إلى تقديم ملامح الإجابات والحلول. ثمة مُشكلة في وجود الظاهرة السابقة. لكن المشكلة الأكبر، بكثير، تكمنُ في التعامل مع عمليات النقد في المجتمعات، كآليةٍ للمراجعات والتصحيح، بناءً على وجود تلك الظاهرة. بمعنى، أن يتم تسليط أشعة الحرمان على ممارسة النقد بدعوى أننا «شبعنا من النقد» وأننا «نعرف أن في واقعنا سيئات كثيرة» وأنه «كفى تنظيراً وأعطونا حلولاً»، وما إلى ذلك من مقولات. فهذا الطرحُ يَغفل عن حقيقةٍ تقوم عليها المجتمعات الأكثر تقدماً في هذا العصر، حيث يُعتبر النقد عمليةً مستمرةً لاتقفُ عند حد، ولاتنحصر في مسألة، ولاتقتصر على جهةٍ دون أخرى. بل إن هناك شرائح كاملة من العلماء والباحثين تنحصر صِفتُهُم في أنهم (نُقاد)، ونَقدهم يمتد من مجالات الفن والأدب إلى السياسة والاقتصاد، مروراً بكل مجالات الحياة البشرية الأخرى. والأغلب أن تكون هذه صِفتهم المِهَنية، بمعنى أن (النقد) هو حِرفتُهم في الحياة. ولايخطرُ في بال أحد أن يشكوَ من (إنتاجهم) ويتبرﱠمَ من استمرار ممارستهم النقدية، فضلاً عن أن يستهين بما يقومون به ويُصنفهُ بأنه عملُ من لاعملَ له. أكثر من هذا، هناك مدرسةٌ كاملة في عالم الأكاديميا هي (المدرسة النقدية)، وهي تُغطي أيضاً كل فعاليات الواقع الذي تعيشه الدول والمجتمعات، وتأثيرُها لايقف عند حدود الساحة الأكاديمية، وإنما يتجاوزُها ليدخل إلى صُلب الواقع، ويُلامس عناصر الحياة اليومية للمجتمعات بآليات التحليل والتفكيك والشك والمُساءَلة، بحثاً عن أسباب المشكلات، وتقصياً لعوامل الخلل والخطأ، واستشرافاً لمداخل الحلول. والمفارقة، التي يجب أن ينتبه إليها أهلُ المقولات المذكورة أعلاه، أن يحصلَ هذا في مجتمعات مستقرة ومتطورة لديها الكثير من الإجابات على أسئلتها، ومن الحلول لمشكلاتها، دون أن يدفع ذلك أهلَها إلى اختزال الموضوع في جُمل تُعبِّر عن (الاكتفاء من عمليات النقد)، وتحملُ في طياتها ادعاء (معرفة أن في واقعنا مُشكلات). الواضحُ أن هذه الطريقة في التفكير، بحد ذاتها، مظهرٌ رئيس من مظاهر مشكلتنا الثقافية في عوالم العرب والمسلمين، وهي المُشكلة التي تُعتبر أصل مشكلاتنا الأخرى، الاجتماعية والسياسية والاقتصادية وغيرها. فَمع تَحكُّم عقلية الاختزال والتعميم والاستعجال في الثقافة السائدة، يُعتقدُ أن بضعةُ مقالات أو كتب أو دراسات كافيةً لتغطية المساحات الواسعة المهترئة في طرق التفكير والعمل والحياة. وبإدراك بعض عناوين المشكلات والإقرار ببعض مظاهرها، يسود الشعور بأننا، حقاً، نعرف سلبياتنا وأخطاءنا. وفي ظل الاعتقاد بكفاية النقد الموجود وقدرته الحقيقية على كشف جذور السلبيات الاجتماعية، يُصبح الاستعجالُ في طلب الحلول والإجابات طبيعياً، وكذلك الاستمرارُ في اعتبار النقد (ترفاً) أو (تضييع وقت) لا طائل من ورائه. مرةً أخرى، ثمة أفرادٌ يمارسون النقد لمجرد النقد، تغلبُ عليهم السلبية في رؤية الواقع، ويصعبُ عليهم إبصارُ كمون الإيجابيات فيه. والحالُ مع هؤلاء، أياً كانوا، أن يُتركُ إنتاجهم ليحكم التاريخ فيه. أما الخطورة فتكمنُ في التعامل مع عملية النقد، بشكلها المنهجي، بناءً على وجود هؤلاء، وطبيعة عطائهم. والأصلُ ألا تتوقف تلك العملية، خاصةً في مجتمعاتٍ هي أحوج ما تكون إلى استمرارها فيها، كما هو الحال مع مجتمعات العرب والمسلمين. waelmerza@hotmail.com
مشاركة :