يُحبُّ الإسلاميون كثيراً ترديد رواية "أصابت امرأة وأخطأ عمر". يُكررون الحديث عن تصويب الله لرسوله أكثرَ من مرة، وعن ورود تلك الحقيقة في القرآنِ نفسه واضحةً جلية. يَفخرون بخطبة أبي بكر عندما تولى الخلافة وقال فيها: "أما بعد أيها الناس فإني قد وليت عليكم ولست بخيركم، فإن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوموني، الصدق أمانة، والكذب خيانة". يتكلمون دائماً عن معاني التواضع، والتجرُد، والاعتراف بالخطأ، والعودة إلى الصواب، والنصيحة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقبول الرأي الآخر. يَنفون وجود العِصمة لدى بني البشر ويُعلُون من شأن التوبة والاستغفار باعتبار أن " كل ابن آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون". لكنهم رغم كل هذا، وفي الغالبية العُظمى من الحالات، يرفضون النقد. تتكرر هذه الظاهرةُ لدى الإسلاميين العرب بشكلٍ عام، لكنها تنطبق بشكلٍ مُلفت على الإسلاميين السوريين، وخاصةً منهم المُنتظمين في مؤسسات أو تجمعات سياسية أو عسكرية أو دَعَوية. فلسببٍ أو آخر، يقرأ هؤلاء كل نقدٍ على أنه هجومٌ وطعن، ويَرون في كل محاولة للإشارة إلى أخطائهم تَجنّياً وتشكيكاً، ويُرجِعون، بسرعةٍ وحسم، كل طلبٍ للمراجعة إلى أحد سببين: انحرافُ صاحب الطلب أو مشاركتهُ في مؤامرةٍ ما عليهم. ومن النادر أن يظهر في ردود أفعال الإسلاميين (حُسنُ الظن)، مع أن هذا يُعتبرُ أيضاً من المعاني التي يتغنونَ بها في أدبياتهم. وأكثرُ نُدرةً أن تجدَ القابلية عندهم للحوار مع الأفكار، ومحاولةَ قراءتها بدرجةٍ من الحياد، والتفكيرَ في دلالتها بشيءٍ من الموضوعية. أما أن تسمع عبارةً فيها اعترافٌ واضحٌ وصريحٌ بالخطأ، فهذا أمرٌ بعيد الاحتمال. لماذا تستمر هذه الظاهرة وتترسخ في أوساط الإسلاميين السوريين إلى درجةٍ غريبة؟ ثمة أكثرُ من تفسيرٍ ممكن. وأولُها يكمن في أن هناك بالفعل نوعاً من التماهي الكبير لديهم بينهم وبين الإسلام. فرغم أن هناك فارقاً، بأدنى درجات المنطق، بين الإسلام كدين، وبين (التديُّن) كفعلٍ بشري يُمارسه الإنسان على طريق محاولة تمثُّل قيم الدين وتحقيق مقاصده، إلا أن الواقع العملي، لمن ينشطون باسم الإسلام تحديداً، يُظهرُ بأن لديهم على الدوام لَبساً بين الأمرين. هذا ليس (اكتشافاً)، وقد كَثُر الحديثُ عنه والكتابةُ فيه في السنوات الأخيرة. بل إن هناك كتباً تبحثُ فيه، منها كتابٌ لمُنظﱢري الحركة الإسلامية التونسية من جزءين بعنوان (في فقه الدين فَهماً وتنزيلاً) يحاول أن يُسلط الضوء على الموضوع بشيءٍ من التفصيل. نُشر الكتاب منذ قرابة ثلاثين عاماً، ومن يومها، يتحدث فيه كتابٌ ومُفكرون وباحثون، لكن واقع الإسلاميين على مستوى الحَركات والمؤسسات لايزال يعيش حالة إنكارٍ مستمرة تتعلق به على صعيد المُمارسات العملية، بغض النظر عن المقولات النظرية. تُحيلُ الظاهرة أعلاهُ إلى مدخلٍ آخر لتفسير ظاهرة تَشنُّج الإسلاميين من النقد تتعلق بمقولة (الخوف على الإسلام). إذ يبدو هذا الخوف، إلى درجة الهوس أحياناً، مُحرِّكاً لكثيرٍ من المواقف الصادرة عنهم، خاصةً في ظروف الأزمات. المفارقةُ أن هذا يتضاربُ بقوة مع منهج القرآن نفسه حين يُطلقُ أجواء ثقةٍ كبيرة بالنفس في مجال التعامل مع ماقد يكونُ حقيقةً تهجماً وتشكيكاً، كما هو الحالُ مثلاً في تعامله مع الصفات التي أطلقها مُشركو قريش لوصف الرسول: معلمٌ مجنون، ساحر، كذاب، مسكونٌ بالجنّ. هذه بعضُ الأوصاف التي أطلقها على رسول الإسلام أولئك الذين لم يؤمنوا برسالته. حدثَ الأمر قبل أكثر من أربعة عشر قرناً. وكان يمكن بسهولةٍ وبَساطة أن يطوي التاريخ هذه الأوصاف ويسكتَ عن الموقف، وأن تموت معهُ تلك الاتهامات. خاصةً وأن (المُتَّهم) انتصر على خصومه المذكورين بطريقةٍ أو بأخرى. ونحن نعرف أن التاريخ يكتبه المنتصرون كما يحلو لهم في أغلب الأحيان.. مع هذا، لم يُبدِ القرآن أي حرصٍ على إخفاء الأوصاف، رغم كل ماتحمله من تحدٍ وهجوم. لم يحاول قطّ أن يطمسها في عالم النسيان، مع أنه كان يستطيع ذلك دون أن يخطر في بال أحد أن يتساءل عن السبب. لم يخشَ من تأثيرها على مقام النبي الذي جاء بالرسالة في عيون أتباعه، وفي عيون الناس من ورائهم إلى يوم الدين. لم يرَ في إيرادها وتكرارها والتفصيل في الإخبار عنها طعناً جوهرياً في شخص الرسول الكريم، ولا مَساً حقيقياً بكرامته وسمعته. بل تجاوز القرآن كل ماسبق وقام بعَرضها في إطار أسلوبه الأنيق بكل مافيه من بلاغةٍ وبيان، وجمالياتٍ في الألفاظ والجمل والتراكيب يتذوقُها من يعرف شيئاً عن اللغة العربية. بالمقابل، يعيشُ كثيرٌ من الإسلاميين، في حقيقة الأمر، بنفسية الإنسان المذعور في هذه الدنيا ومنها، حتى لو كانوا يدﱠعون غير ذلك بحديثهم النظري عن (عزة الإسلام)، أو ببعض المظاهر العسكرية في حالة الثورة السورية. هنا تَظهرُ المشكلةُ مركبةً، ففي حين أن الإسلام كبير، يجعله البعضُ صغيراً حين يُصرﱢون على التماهي الكامل فيه، ويُضفون عليه، دون أن يدروا، كل ما فيهم هم من ضعفٍ ومَحدودية. يظلمُ الإسلاميون عامةً، والسوريون تحديداً، الإسلام كثيراً، ويظلمون معه المسلمين والعالم بأسره. يظلمونه أكثر من أي جهةٍ أخرى يعتقدون أنها تُعادي الإسلام وتُشكلُ خطراً عليه. يُقزﱢمونه بدعوى الخوفِ عليه، وخاصةً حين يرفضون النقد ويُصرُّون بشكلٍ غريب على تجنب المُراجعات. فالواقع الراهن مليءٌ بالتحديات والأسئلة الصعبة التي تحتاج إلى مواجهتها بشكلٍ واضحٍ وشجاع وبكل شفافيةٍ وجرأة، بعيداً عن خوفٍ كاذبٍ على الدين يخنق في نهاية المطاف روحه الأصيلة، ويُحاصر كمونه الهائل. وهو كمونٌ لاتُحفظُ في غيابهِ أمةٌ ولا هوية. وإذا كانوا يخافون من الفوضى، فإن رفض النقد وغياب المراجعات هو الذي يؤدي إلى الفوضى وسيؤدي إلى المزيد منها على جميع المستويات. لأن هذا يترك المجال مفتوحاً أمام عمليات اختطاف الإسلام التي تهدف إما لتمييعه بحيث يفقد ملامحه الأصيلة، أو لتوظيفه بحيث يُصبح خادماً للواقع ومبرراً لسلبياته، أو لتجميده بحيث يُضحي منظومةً بائسةً من المظاهر والطقوس والرموز والأشكال. waelmerza@hotmail.com للتواصل مع الكاتب ارسل رسالة SMS تبدأ بالرمز (80) ثم مسافة ثم نص الرسالة إلى 88591 - Stc 635031 - Mobily 737221 - Zain
مشاركة :