وبقدر ما صنع «تويتر» نافذة لعالم يعج بملايين الأصوات، إلا أنه أيضاً أسقط شخصيات كان يعتقد أنها تملك درجة من الوعي تبعدها عن حالة السقوط، فإذا هي تخوض مع الخائضين، وتتنابز مع المتنابزين، وتأخذها عزة الحضور القديم بإثم التواصل الرديء.. حتى لتصبح تلك الأسماء جزءاً من عالم متواضع السمة في التعبير أو الحوار.. كثرة الجعجعة لا تضمن طحينا.. وقد تطعم خبزا ضارا يغذي نزعات ضارة تقصف العمر وتهرق الجهد وتراكم الأسى!! مواقع التواصل الاجتماعي، تتصدر الفعل الاجتماعي الثقافي الأوسع في قدرتها على كشف المخبوء والمسكوت عنه، وفي تقديم مؤشرات من نوع ما على خلفيات المشاركين وقدراتهم وبضاعتهم. ومن يحاول أن يكتشف بعض أبعاد هذه الساحة التي تعج بكل الأصناف ولا تضيق بالمشاركين من أي مكان جاءوا ومن أي مورد شربوا.. وتزخر بكثير من الإعلانات والدعايات والمنقولات والمواعظ والحكم والعبث أيضا ونزعات ووظائف خفية الله أعلم بها.. ربما يُلحظ أن كثيرا من هذا المداد المهرق في ساحة القول لا يخرج الجاد منه عن استعادة وتدوير لا ابتكار وتنوير. مواقع التواصل الاجتماعي.. لم تعد فقط منبر من لا منبر له.. بل صارت خليطا عشوائيا وساحة تعج بكل شيء مدهش وغني، ورخيص وغث، وسمين متقن، وركيك فقير. وما على العابر في سوق القول والتعبير، سوى ان يبحث عما يناسبه وليس بالضرورة عما يضيف إليه وينمي عقله ويحرض ذهنه ويجلب له طعاما من نوع آخر يزيده رغبة في البقاء. تحطمت حواجز كثيرة، وأصبح العالم بين يديك، بل ربما انكشف على عالم لم تكن تراه كما هو.. لم يعد القول مقننا، ولا التعبير حكرا، ولا العبث مؤطرا، ولا التسقط أو محاولة الإسقاط عملا يتردد الضالعون فيه عن اقترافه بمعرفات مجهولة وعناوين رمزية وصراخ في برية تويتر. ثمة صورة لم نكن نراها صارت عيانا بيانا بين عيوننا. لا أحمل موقفا سلبيا من تلك النوافذ التي صارت جزءا من حياتنا.. بل إن فوائدها أكبر بكثير من الآثار السلبية التي يمكن أن تؤول إلى استخدامها أحيانا كوسائل فعالة للوصول إلى أهداف التقويض أو الانتهاك أو الإسقاط. ومن يدعو اليوم لحجب "تويتر" أو غيره من مواقع التواصل الاجتماعي.. إنما هو أسير نظرة قصيرة تعالج موقفا بالمنع.. إنه يقاوم الوسيلة، ولا يعالج العقل والدوافع والظواهر التي ترُكّب تلك الذهنية للتعامل مع منتج تقني بارع.. إنه لا يعالج أزمة التراكم بالبحث عن جذرها وكشف ملابساتها ودوافعها والعمل على صناعة عالم أكثر لياقة بالحياة. إن كل ما فعلته أنها كشفت تلك المجتمعات على بعض حقيقتها.. كل ما فعلته أنها نقلت ما يحدث في داخل تلك الرؤوس وعلى مقاعد الصالونات وبين جدران الغرف المغلقة.. إلى عالم رحب يتداوله الآخرون وأحيانا كثيرة بلا تردد أو حذر. وقد لا يلتفت البعض إلى ذلك التناقض بين وسيلة تقنية تعبر بشكل أو بآخر - من حيث هي وسيلة - عن منتج أبدعته عقول ومعامل وأفكار، تنتمي إلى منظومة ذهنية ومعرفية لها شروطها وملامحها وأبعادها وفلسفتها.. لتجعل هذا القرن وما سبقه من عقود ثورة في عالم الاتصالات.. وبين ما يتم توظفيه لاستعادة ملامح التوقف أو الإيقاع أو إثارة نعرات طواها الزمن لتزدهر فيها الحياة أيام تويتر ونظرائه! وهنا يأتي وعي المجتمع بذاته وقضاياه، فالوسيلة مهما بلغت من التقنية، فربما تصبح مشروعا لترويج مفاهيم غير إنسانية أو بدائية أو تستعيد وعي الجماعات الأولى حول ذاتها من عشائرية أو قبلية أو مذهبية.. أو إثارة صراعات جانبية تطحن ما تبقى من طاقة وعقل وبتلهف يدعو للدهشة.. حتى ليطغى هذا السياق على ما عداه من تباشير توحي بإمكانية توظيف تلك التقنية الاتصالية الرائعة لخدمة مشروع يتجاوز تلك الاستعادة بظلالها التي تشكو العجز عن مواكبة التطور بسماته وشروطه المنتجة، مما يؤدي لانحسار مقومات صناعة مجتمع يتقدم في سؤاله حول حق المستقبل، بينما يتم تضخيم الذات المذعورة والقلقة على جماعتها أو تكوينها الثقافي الضيق والهش، أو المتعلق بشروط حداثة لا يمثلها حقا.. أو منهمك في هدر طويل لا عائد من ورائه سوى قتل الوقت الرخيص!!.. هل ثمة ملامح من نوع جديد تحرض على نمط من التفكير يزرع في مدى قد يقصر أو يطول ملامح تحول وتطور إيجابي.. ونظرة تتجاوز المعطل إلى أفق أرحب للحياة والإحياء؟ هذا هو السؤال المهم في قضايا في توتير وغيره. ومن هنا تأتي تلك العلاقة الضدية بين مفهوم المنتج الذي يؤول إلى عقل متقدم في وعيه وفي تطوير أدواته الاتصالية بين البشر.. والذي تحول إلى قيمة اقتصادية كبرى.. يستهلك الخاملون منتجاتها بشراهة.. وبين ثقافة تروج من خلال ذلك المنتج. وقد تكون ثقافة لا تعني سوى استعادة لعناوين طواها الزمن، فإذا هي تبعث من مرقدها لتسيطر على مجال عام عنوانه استعادة حروب كلامية بين فرقاء لا أحد منهم له علاقة بالأصل في إشعال أزمات التاريخ وكوابيسه.. وكل ما في الأمر أنهم مجرد سلالة وقعوا في فخ الترويج لتلك النزعات القاتلة لبقية عقل أو تكوين يريد استعادة المجتمع لحقل وفعل مدني منتج.. وهو يدرك أين تكمن قضاياه الكبرى، وأين يتحتم عليه أن يبحث ليصل إلى درجة تمكنه من التحكم بمستقبل غدا في مهب الريح!! ولا أزعم أننا الوحيدون في العالم الذين نعاني من ظاهرة الاستخدام الرديء لمنتجات تقنية عالية القيمة الفنية.. إلا أننا الأخطر وضعا بعد هذا الكابوس الكبير الذي يحيط بالمنطقة ويغرقها في حروب طائفية ودمار شامل.. مع التباس كبير في تلمس أفق يمكن أن ينقذ هذه الأمة من حالتي الانهيار والتأزيم المستمرتين. الفقر في الدراسات الاجتماعية، يحول دون بناء تصور دقيق عن تأثير أو طبيعة استخدام أو استلهام هذه التقنيات التواصلية الجديدة في بناء مفاهيم ثقافية واجتماعية متغيرة ومتحولة.. القراءات الانطباعية لا تُمكِّن من الخروج باستنتاجات دقيقة عن وعي المجتمع بمفهوم تقنية الاتصال أو وظيفتها أو التأثيرات التي صنعتها. أما تأثير تلك المواقع في الرأي العام، فهو يتطلب دراسة أخرى، خاصة وأن ضبط مصطلح الرأي العام سيكون عرضة لكثير من الأسئلة الشاقة. وفي وسط تواصلي يخفي أكثر مما يبين، وبين ملايين المشاركين التي لا تخفى توجهاتهم إنما يصعب قراءة تأثيرهم على الآخرين، خاصة أولئك المتابعين الصامتين الذين قد تستهويهم الأصوات العالية. وبقدر ما صنع "تويتر" نافذة لعالم يعج بملايين الأصوات، إلا أنه أيضاً أسقط شخصيات كان يعتقد أنها تملك درجة من الوعي تبعدها عن حالة السقوط، فإذا هي تخوض مع الخائضين، وتتنابز مع المتنابزين، وتأخذها عزة الحضور القديم بإثم التواصل الرديء.. حتى لتصبح تلك الأسماء جزءاً من عالم متواضع السمة في التعبير أو الحوار.. ولا يجب أن يغتر عابر بعدد المتابعين، فما أكثر الراكضين خلف الراكضين، وما أكثر الهاتفين خلف الأصوات العالية التي تجيد الإثارة، وتتقن الصنعة لتجلب المزيد والمزيد.. في شبق للحضور ليس له نظير. إن تلك الأرقام المليونية التي يتوسل بها البعض لمتابعيه.. ليست أكثر من أرقام في فلاة "تويتر"، وقد لا تنم سوى عن انتصار مسبق لفكرة النجم، دون فحص هذا النجم جيدا أو معاودة قراءة ملامحه.. وما أكثر أولئك الغارقون في وهم النجومية، وما أكثر أولئك المستغرقون في وهم النجم الكبير!! لمراسلة الكاتب: aalqfari@alriyadh.net
مشاركة :