منذ أن كتب المسرحي الأسباني "أليخاندرو كاسونا" مسرحيته "الأشجار تموت واقفة" والتي ذاعت شهرتها، أصبحت - عنواناً ومعنى - اقتباساً لكثير من الأعمال الأدبية. أشجار "أليخاندرو كاسونا" التي تموت واقفة، لم تكن سوى رمزية يريد بها البشر الذين يثبتون أمام عواصف الحياة، حتى إذا انهزموا، ماتوا وقوفاً على أقدامهم. استعير هذا العنوان من أجل البشر أيضاً، ولكن أقصد بها الأشجار ذاتها التي تموت واقفة. أشفق على من يعاني من علة التلوث البصري. وهذه علة يصاب بها بعض البشر، الذين ترهق أبصارهم ونفوسهم تلك التشوهات التي تقتل جمال البيئة أو تراكم البثور بوجهها أو تسد منافذ التناسق والجمال عن عيونهم عندما تقع على تلك التشوهات. إن أشجار الصحراء التي عاشت ردحاً طويلاً عوناً وغذاء ووقوداً وظلاً لآبائنا وأجدادنا لتستغيث اليوم من جور الإنسان، الذي لم يكتف باقتلاع بعضها من جذورها بل وترك مخلفاته وراءه لتشقى بها من بعده.. في كل صباح وأنا بطريقي إلى عملي، وفي طريق من أهم طرق الرياض العاصمة، يؤلمني مشهد بعض أشجار النخيل، التي غرست على جنبات الطريق.. وهي تدلي برأسها معلنة موتها حتى لو بدت قامتها شاهقة.. إلا أن الحياة غادرتها لتجعلها أمثولة في الطريق على قتامة الموت بعد ازدهار الخضرة، وعلى قدرة تلك الأشجار على تحدي السقوط حتى وهي تلفظ الحياة. لا أعرف من هو صاحب فكرة تحويل الشوارع في مدن العاصمة إلى مشهد تعرض فيه مسرحية "النخيل تموت واقفة". وفي كل شارع رئيسي لو لم ينقذك الله من حالة الرصد البصري سترى العديد من أشجار النخيل، التي ودعت الحياة ولكنها ظلت واقفة شهادة على نبل وكرامة وعطاء أصلها وجذورها في أرض الجفاف والندرة. النخلة شجرة الحياة في هذه البيئة الطاردة للحياة، ولكن على مر الدهور ظلت شجرة الوادي وبئر الساقي، وعناية الفلاح. أما أن تكون شجرة يتزين بها الطريق أو يستظل بها العابر، فأمامكم تجربة ثلاثة عقود.. لم تحصد هذه المسكينة سوى الجفاف المر وحرارة الطريق القاتل ونفثات العربات السامة.. وحتى ما يعيش منها ليست سوى أشباح أشجار غادرتها الخضرة لتظل فقط على رمق الحياة. لقد منحنا الله في هذه البيئة الحارة والجافة، أشجاراً معمرة ذات خضرة دائمة لا تحتاج سوى تنسيق بين وقت وآخر لتظل أفضل مشروع تشجير لا على جنبات الطرق وحدها ولكن حتى على امتداد الصحراء. أُثير الكثير من اللغط حول شجرة "الغاف" او "البروسوبس" قبل عقد ونصف، باعتبارها سبباً للحساسية، ولم تثبت هذه التهمة بحقها بشكل خاص، فكثير من حبوب لقاح الأشجار تسبب الحساسية الموسمية.. بينما أخذت معاول الأمانات والبلديات تقطعها بلا رأفة وتستبدلها بأشجار أخرى تتطلب مياهاً وفيرة وعناية خاصة وعطاؤها قصير الحياة. أين نجد شجرة صحراء في هذه البيئة القاسية، كلما ازدادت الحرارة زادت اخضراراً وكلما قل الماء عاشت ونمت طويلاً بلا سقيا، وكلما ماتت الأشجار واقفة ظلت تضرب جذورها في الصحراء وتنشر اخضرارها وأغصانها وهي تكتفي بأقل القليل من رطوبة الأرض النادرة. أعيدوا النظر في زراعة أشجار النخيل، وأكرموا عمتكم النخلة، بأن ترحموها من هذه الميتة القاسية، لا تجعلوا أبصارنا تصطدم كل يوم بنخلة صابرة رمت رأسها أخيراً بعد ان لفظت أنفاسها، ويقيت شهادة على قسوة ومرارة هذه الهجير الطويل. أما الأمر الآخر والأشد شناعة، والأكبر تأثيرا وسيكون له أفدح العواقب على بيئة الصحراء الشحيحة، فهو ذلك التلوث الذي أصاب شجيرات الصحراء وتربتها نتيجة لانتشار ملوثات أكياس وأطباق وعبوات الماء البلاستيكية. من يعشق الصحراء التي تهبها المواسم الممطرة جمالاً على جمال، سيكون متألما أشد الألم لانتشار تلك الملوثات في كل بقعة يرتادها. ماذا نفعل بتلك البيئة التي نقتل أجمل ما فيها بتلك الممارسات القاتلة؟ الصحراء البعيدة صارت ملوثة بفعل انتشار تلك العبوات البلاستيكية التي لا يمكن أن تتحلل في التربة لو طمرت فيها إلا بعد عشرات السنين وربما مئاتها.. كيف لكم ان تخرجوا للصحراء في مواسم الجمال والمطر لتجلسوا بين أكياس الزبالة ومخلفات البلاستيك وعبوات المياه التي تنتشر في الأفق حد العذابات لمن يشقيهم هذا التلوث البيئي الذي قضى على جمال الصحراء التي خلقها الله حسناء بكل مكوناتها من حجر وشجر ووديان وجبال. وعندما تحتفل الأرض بالمطر فلن ترى جمالا يفوق جمالها، ونباتا يدهشك تنوعه، وهواء يمتزج بخزامها وعرارها لينشد من جديد قصيدة الحياة. انظروا بعناية لفعل تلك الأكياس الصغيرة العابرة والمتطايرة في أجواء الصحراء، لتروا كيف تفعل عقدتها في شجيرات صحراوية تقاوم الهجير وتمنح الصحراء جمالها الخاص لتروا كيف تلفظ تلك الشجيرة حياتها ويتعطل نموها فتبدو باهتة مختنقة. إن أشجار الصحراء التي عاشت ردحاً طويلاً عوناً وغذاء ووقوداً وظلاً لآبائنا وأجدادنا لتستغيث اليوم من جور الإنسان، الذي لم يكتف باقتلاع بعضها من جذورها بل وترك مخلفاته وراءه لتشقى بها من بعده. لا أعرف حتى اليوم لماذا هذا الإهمال الكبير لموارد صحراوية محدودة أصبحت انتهاكا وتدميراً مستمراً منذ ما يزيد عن أربعة عقود. ما الذي يحول دون أن تمنع بتاتاً تلك الأكياس البلاستيكية الصغيرة التي تقدم مع اأتفه المشتريات وأصغرها حجما؟ ما الذي يحول دون ان تمنع تلك الأطباق البلاستيكية التي أصحبت محل تهمة وهي تستخدم للطعام بينما الدراسات الموثوقة تؤكد أنها سبب من أسباب انتشار بعض أمراض السرطان؟ ما الذي يمنع من إصدار تشريعات ملزمة تمنع المصانع من إنتاج تلك العبوات التي أصبحت تهدد الحياة. في بلدان كثيرة اليوم لن تجد تلك الحاويات البلاستكية الصغيرة، ومن يريد ان يحمل مشترياته في أكياس كبيرة عليه أن يأتي بها ليعاد استخدامها مرة اخرى، ومن لا يملك عليه ان يدفع ثمنها، وهي أكياس كبيرة ومتينة يعاد استخدامها باستمرار. هل كنا قبل خمسة عقود أكثر تحضراً عندما كنا نحمل سلالنا للفران او للتسوق من سوق الخضار.. بالتأكيد كان ثمة حاجة لاحتواء ما نشتريه.. إلا ان انتشار تلك العبوات التي ترمى تلقائيا شكلت أكبر كارثة بيئية اليوم، وهي تهدد بوسائل طمرها ونظافة المدن منها وتراجع القدرة على احتواء آثارها بالكثير من الكوارث. لقد تضاعفت مخلفاتنا المنزلية أضعافا كثيرة، وأصبحت حاويات البلديات المنتشرة في شوارعنا غير قادرة على استيعابها.. إلا أن معظمها مخلفات ضارة وطمرها ضار بالبيئة وإحراقها خطر أكبر وعملية معالجتها وتدويرها بفعالية لازالت مجرد أفكار عابرة سرعان ما تتلاشى وسط زحام المشروعات الاستهلاكية الشرهة لتدوير المال وحده. لسنا بحاجة لمصانع تنتج موادَّ تقتلنا وتقتل ما تبقى لنا من بيئة الصحراء الفقيرة. البدائل متوفرة.. الأكواب الورقية والصحون الورقية والأكياس الورقية.. وأوعية المياه الكبيرة التي يعاد استخدامها. أما الوعي العام فلا زال قاصراً قصوراً يوحي باللامبالاة.. من الذي يرفض أن يأخذ كيساً بلاستيكياً صغيراً من أجل علبة مشروب، من هو الذي يحاسب نفسه عند إلقاء تلك المخلفات في الشوارع أو المتنزهات أو في الصحراء البعيدة.. من الذي يجمع مخلفاته بعد نزهته في الصحراء ليضعها في حاويات القمامة ليخلص الناس من شرورها ويخلص تلك البيئة من عبئها الطويل. الأشجار تموت واقفة، وهناك من يدمر ما تبقى من بيئة عاشت بسلام قرونا قبل أن تصل إليها يد الإنسان وهو يحمل معه السموم القاتلة. أعان الله من يشكو من علة التلوث البصري، ويرنو إلى بيئة طبيعية لم تعبث بها يد الإنسان ولم تشوه بقاياها. لمراسلة الكاتب: aalqfari@alriyadh.net
مشاركة :