بعد الأنطولوجيا الضخمة التي صدرت له مطلع هذا العام حول الاتجاهات الطليعية الروسية وتلك العالمية التي تبعتها حول قصيدة النثر يطل علينا الشاعر العراقي عبد القادر الجنابي بأنطولوجيا ثالثة، شخصية هذه المرة، صدرت حديثا عن دار المؤسسة العربية للدراسات والنشر تحت عنوان كائنات العزلة. وكما يشير إليه هذا العنوان يرصد الجنابي بأنطولوجيته هذه موضوع العزلة، لكنه يوضح سريعا لنا -في معرض تعريفه بموضوعه- أنه لم يرد أن يكون عمله مجرد تجميع نصوص عن المشتقات السلبية للعزلة (الوحشة، والوحدة، والرثاء، والضياع، والقلق، والمنفى..) بل أن يكون تقاسيم شعرية محضة في ميلاد القصيدة، وفي الشاعر، هذا الكائن الذي يخترق الحشد بعزلته مبتهجا بما تمنحه هذه العزلة من أنا استبصارية. وفعلا، يرى الجنابي في العزلة الشرط الأساسي للشعرية، وفي الشاعر ربيب العزلة وصنيعتها، ففي شسوعها تصل رؤياه سدرة اللامرئي. البحث عن السكينة وفي هذا السياق، يقول لنا الشاعر هو الكائن الأشد وعيا بأن العزلة ولدت ما أن طرد الإنسان من مركز الكون. ومن هنا، فهو لا يرى العمل الشعري سوى عملية تنقيب في بيداء الكلمات وخرائب تركيباتها عن المركز، حيث الاختلاء بالذات رؤيا وتأمل. هكذا تصبح كل قصيدة -تركيبا وإيقاعا- شكلا من أشكال عزلة الشاعر، وتصير الكتابة عملية معالجة ما هو منعزل ومقصي في خافيته. وبالنسبة إلى الجنابي فإن العزلة هي أيضا طقس السكينة الشاملة، لحظة انصهار الشاعر في كليته، حيث يتجلى الشعور الأعمق بفردانيته المستقلة، وحيث ممر سري يخرجنا مما اعتدنا عليه. ومن هذا المنطلق -يذكرنا الجنابي- حوّل سيوران شعار ماركس يا عمال العالم اتحدوا إلى يا منعزلي العالم اتحدوا، وكتب جان جينيه الذي قضى فترة في السجن الزنزانة؟ إنها الفردوس.. أتعلمون، إن السجن على عكس ما نتصوره، السجن ليس بسجن، إنه الهرب، الحرية، ففيه نتخلص من الزوائد والكماليات ونصل إلى الجوهر. ولا يفوت الجنابي التذكير بأن الشاعر ينفصل عن الواقع في لحظات العزلة، لكنه يعتبر أن هذا الانفصال ليس سوى لإعادة تنظيم الواقع من جديد، وتشخيص علة خلله التي غالبا ما تجعلنا نعتزل. لكن في العزلة يذهب الشاعر إلى أبعد من ذلك -بحسب الجنابي- فهو يحلق كطائر افترق عن ظله في فضاء الغد الحي وليس الغد الغيب، لأنه هو الكائن الزماني الذي يمسك بين يديه الأبدية!. وكما في جميع أنطولوجياته السابقة لا يتبع الجنابي في عمله الجديد تقسيما تقليديا قوامه مقدمة ونصوص مختارة، إذ نقرأ في البداية نصا حرا له يصف فيه حالة العزلة الكلية التي يعيشها منذ فترة، عزلة مثمرة تفتح كوة الاستذكار وتدون الأنا فيها ما يمليه عليها الآخر الضبابي. الشاعر والعزلة بعد ذلك، نقرأ 12 قصيدة قصيرة للجنابي حول موضوع العزلة، يقول في إحداها ما إن يُطفأ الضوء/ حتى تنير العين الباطنة/ المخبأ../ وتهب العزلة تروي!. ثم يستتبع هذه القصائد بنص نقدي يبين فيه علاقة الشاعر العضوية بالعزلة قبل أن يختار 42 قصيدة لشعراء أجانب وعرب تناولوا فيها هذا الموضوع. ومن الشعراء الأجانب نذكر خورخي لويس بورخيس وقسطنطين كفافي وهانز آرب وكارلوس دي أندراد وجورج تراكل وروبرتو خواروث وأوكتافيو باث وهولدرلين وبليز سندرار وإيميلي ديكنسون وجيم موريسون وبابلو نيرودا وخوان رامون خمينيث وتد جونز وتشارلس ريزنيكوف وبول فاليري وجيرار دو نرفال وشارل بيغي وليوبولد سنغور. أما الشعراء العرب فهم نازك الملائكة ويوسف الخال وفؤاد رفقة ومحمد الماغوط وعبد الرحمن طهمازي ومحمود البريكان وأمل دنقل وعباس بيضون ووليد خازندار وأمجد ناصر وعيسى مخلوف وبلند الحيدري ومنتصر عبد الموجود ومحمد الغزي. الملاحظ في طريقة تقديم القصائد التي تتضمنها هذه الأنطولوجيا هو أن اسم كل شاعر وضع في نهاية قصيدته بحرف صغير كما لو أن الجنابي أراد بذلك التدليل على تبنيه هذه النصوص، كما أدرج بينها قصائد له من دون توقيعها. وهذا ما نستنتجه أيضا في الشذرات الـ21 التي تختم الأنطولوجيا وتشكل مجتمعة تعريفا كاملا بالعزلة من كل جوانبها، وتعود إلى شارل بودلير ونيتشه وباث وبول أوستير ومحمود درويش وجبران خليل جبران وبول شاوول وعاشور الطويبي وأنطونيو بورشيا وأرثر شنيتزلر وجين يان وروبرتو خواروث وبول إيلوار وجورج مينوا وكارل كراوس وسيوران وكريستيان بوبان. يبقى أن نشير في النهاية إلى جهد الترجمة الكبير الذي تطلبته هذه الأنطولوجيا وخاض الجنابي غماره -كالعادة- بأمانة ومهارات فنية وتقنية لافتة.
مشاركة :