قال سميح قاسم «أخي محمود.. مسكين ساعي البريد المتنقل بيننا مثل رقاص ساعة أثرية… حمل رسالتك، دمعتك… فحملته الحيرة كيف يوصلها.. أية لوعة في القلب أودعتها رسالتك…». - جزء من رسائل سميح قاسم ومحمود درويش - إنها الإفضاءات الذاتية، والنبرات الحزينة المغلفة بسخرية القدر، ذلك الإيقاع المنساب مع حبات الرمل بين أصابع الزمن الماضي، لوحة فنية من فنون الأدب وروائعه الزاخرة، التي اختفت وتلاشت في الزمن الافتراضي للعالم الحديث المفعم بالقلق والحيرة وترقب المستقبل، وسرعة الحياة واختزالها في ومضة قصيرة من عمر الزمن، هي قطعة أدبية تعرف بـ (الرسائل الأدبية) أين هو الآن كوسيلة تعبير فني خاص؟ وأين ساعي البريد المتنقل؟! كانت الرسالة أول اتصال بالعالم الخارجي ولم يكن الشعر والخطابة قادرين على أداء الدور العملي الذي تؤديه، ومن هذا التاريخ نافس الكاتب المترسل الشاعر والخطيب، فقام بترجمة ما يدور في العقل من كلام حول موضوعات معينة على شكل رسائل، تعبر عن أفكار الإنسان ومشاعره بلغة رصينة وعاطفة صادقة، وأساليب منمقة. يقول عيسى الوزير «النثر من قبل العقل والنظم من قبل الحس» فكانت الوسيلة الأكثر فاعلية في بناء حضارة الإنسان وتطورها، ويستعرض خلالها ثقافته ولغته ورؤاه الفلسفية الفكرية، يقول الأديب إبراهيم الهاشمي: «الرسائل الأدبية تمثل الصوت الداخلي للكاتب، لأنه في ثناياها، يبث أكثر الأفكار والمسائل قرباً وتعبيراً عن نبض قلبه، سواء كان ذلك هماً فكرياً أو إنسانياً وجدانياً» ويكفي أن نذكر، على سبيل المثال لا الحصر، رسائل أبي حيان التوحيدي في الصداقة والصديق، ورسائل ابن زيدون، ورسالة الغفران للمعري، والرسائل الإخوانية (إخوان الصفا)، والإخوانيات الأخرى. ففي الآونة الأخيرة من عمر الأدب العربي بات هذا الفن الأدبي شبه مندثر بشكله القديم، فقد أخذ بالتراجع والانحسار شيئاً فشيئاً إلى حد الاقتصار على مجموعة من الأدباء المبدعين، حيث كانت هناك العديد من النصوص الإبداعية التي وظفت في بنيتها الأساسية أدب الرسائل مثل توفيق الحكيم في روايته (زهرة العمر)، واستقرت ديمومة الرسائل على أرفف المكاتبات الثقافية والرسائل الإخوانية العاطفية كرسائل غادة السمان وغسان كنفاني، بينما امتنع بعض الأدباء من نشرها خشية من إثارة البلبة والزوابع، فبقيت حبيسة الأدراج أو مودعة في عين الغيب. ويعتبر جبران من الأدباء الذين أثروا فن المرسلة، وكانت قصته مع (مي زيادة) مثال الحب النادر المتجرد من كل ما هو سطحي مادي، في كتابه (الشعلة الزرقاء) وتلك الرسائل المتبادلة بين الرافعي وأبي ريّه محمود فقد كانت من أرقّ الرسائل وأعذبها وأجملها أسلوباً وأصدقها نقداً. ولعل من أبرز أسباب هذا الانحسار هو أزمات الحياة المختلفة والتأثر بإيقاع العصر وانصراف الناس عن الأدب والأدباء وإهمال اللغة، وضعف الأجيال الجديدة في تلقيها إلا أن الأدب الحديث لم يهمل ثيمات الرسائل في ثوبها الرقمي العصري ومدوناتها إلالكترونية الحديثة التى تحمل في طياتها متغيرات وسمات أدبية جديدة، تعالج القضايا بأسلوب يتأرجح بين الجد والهزل والظاهر والباطن في بضع سطور مختزلة. ليبقى أدب الرسائل درراً في قلادة الأدب العربي.
مشاركة :