أفكارنا بوصفها مشروعات تأملية

  • 12/6/2020
  • 00:00
  • 2
  • 0
  • 0
news-picture

في المقالة السابقة، كان الحديث عما سماه ليون فستنغر «التنافر المعرفي» المولّد لتوتّر الفرد عندما تتضارب لديه فكرتان يعتقد بهما، أو يتضارب سلوكه بفكرة يؤمن بها، وكيف أن إنقاذ الأفكار من التغيير لتخفيف ذلك التوتر، يمكن أن يتم عبر حيلٍ متعددة، كإضافة مدرك جديد يخفف العلاقة بين الفكرة والسلوك المتضاربين. ولأن الحيل ربما لا تصمد كثيرا، وخصوصا إذا ما كان ذلك التضارب بين الفكرة والسلوك كبيرا بما يكفي، فإن الفرد يسعى كحل أخير إلى تغيير أفكاره، ولكن تلك الأفكار هي نتاج اجتهاده وتحصيله لسنوات، وتحت تأثير مغالطة التكلفة الغارقة التي تحدثت عنها في مقالة سابقة، فإن التغيير لا يتم بسهولة. عالم النفس والفيلسوف الأمريكي وليام جيمس، شرح الماكنيزم الشائع لتغيير الأفكار، حيث أشار إلى أنه عندما تصطدم الأفكار القديمة التي يحملها الفرد مع خبرة جديدة لا يمكنه التعامل معه بأفكاره تلك، فإنه يدخل في حالة توتر وقلق باطني، وبالتالي، وتحت هذا الظرف الاضطراري، لا يقوم الفرد بتغيير أفكاره بالكامل، بل يلجأ إلى تعديل جزئي وبسيط بالحد الأدنى للتعامل مع هذه الخبرة الجديدة، مع الحفاظ على القدر الأكبر من أفكاره كما هي. هذا التغيير المحدود يمكن اعتباره –بحسب وليام جيمس أيضا- وسيطا يضمن التوفيق بين الأفكار القديمة وتلك الخبرات الجديدة الطارئة، ويفضي بالنتيجة إلى فكرة جديدة قادرة على الصمود، وقادرة على الاتساق مع باقي الأفكار القديمة التي طالها تغيير محدود. أتذكر هنا أحد الأصدقاء الذي رمى ذات حوار برأي جريء جدا، وحين أشاد البعض بجرأته، ردَّ بالقول بأنه «يرقل» وهي مفردة سعودية تعني بأنه لا يزال متأرجحا بين فكرة قديمة، وتغيير يراه ضروريا للتعامل مع الخبرة الجديدة، وهذا التأرجح طبيعي في سياق تغيّر الأفكار واستبدال بعضها بأفكار أكثر انسجاما مع المستجدات التي نواجهها. من هنا، لا يمكن أن ننظر إلى أفكارنا وأفكار الآخرين سوى أنها تمثل قناعات لحظية ومرحلية، فهي مشروعات تأمل مفتوحة، تنتظر أن تواجه خبرة حقيقية ليتم اختبار صمودها، ولكن هل يمكن بسهولة أن نجعل الأفكار في حالة سيولة من هذا القبيل بوصفها إمكانات معرفية وليست أجوبة ناجزة؟ وهل أفكارنا ملكية خاصة لا نتشارك مع حواضننا الاجتماعية دور حمايتها والحفاظ عليها؟ وكيف تؤثر تلك الحواضن على الأفكار المشاعة؟ هذه الأسئلة تدفعنا إلى الاعتراف بأن أي مقاربة تروم معالجة الأفكار وتغيرها، لا يمكن التعاطي معها بالتركيز على الفرد وإغفال حاضنته الاجتماعية، وهو حديثنا في الأسبوع المقبل.

مشاركة :