السياسات الاقتصادية .. «التوازن» كلمة السر الأهم

  • 12/9/2020
  • 00:00
  • 1
  • 0
  • 0
news-picture

تترابط المتغيرات الاقتصادية فيما بينها بدرجات متعددة من التأثير المباشر وغير المباشر، تبدأ من الأقوى تأثيرا وصولا إلى أدنى درجات التأثير، ضمن شبكة هائلة الحجم من التأثيرات المتبادلة، وهذا هو ميدان السياسات الاقتصادية الذي تعمل على التحكم وتنظيم وتوجيه تلك المتغيرات العديدة في الاتجاه الذي يعزز في خلاصة نتائجه الاستقرار الاقتصادي، ويدعم النمو الاقتصادي المستدام، والمحافظة بموجب السياسات والبرامج المعمول بها على توازن عمل تلك المتغيرات وفق "منظومة متكاملة"، يدعم بعضها بعضا ودون أن يعطل بعضها بعضا، ودون أن ينشأ فيما بينها أي تضارب قد يؤدي لاحقا إلى الإخلال باستقرار الاقتصاد، أو حدوث أي أزمات من أي نوع كان في أي نشاط من أنشطة الاقتصاد الوطني. لفهم أكبر لما تقدم ذكره أعلاه، نقرأ معا قصة حقيقية حدثت خلال الفترة التي سبقت الانهيار الشهير لسوق الأسهم في شباط (فبراير) 2006، كان قد طرح خلال العامين السابقين لذلك الانهيار عديد من الأسئلة في الشأن المالي والاقتصادي، من أهمها: ما تفسير استقرار معدل التضخم خلال عامَي 2004 - 2005 عند مستويي 0.3 و0.5 في المائة على التوالي، في الوقت ذاته الذي كان معدل نمو السيولة النقدية الواسع قد وصل إلى 18.8 في المائة خلال 2004، وإلى 11.6 في المائة خلال 2005، وارتفاع حجم ائتمان القطاع الخاص بنسب قياسية غير مسبوقة وصلت إلى 37.4 في المائة خلال 2004، ثم إلى 38.9 في المائة خلال 2005. وأتى هذا التساؤل الكلاسيكي مستغربا هذا النمو الكبير جدا في معدلات نمو السيولة المحلية، وفي حجم الائتمان للقطاع الخاص، الذي لم يقابله أي تأثير في معدل التضخم ومستويات الأسعار في الاقتصاد. في أثناء البحث والتحليل، جاءت الإجابة متأخرة باكتشاف تدفق تلك السيولة الهائلة إلى سوق الأسهم المحلية، التي سجل مؤشرها العام ارتفاعات قياسية خلال الفترة نفسها بنسب وصلت إلى 84.9 في المائة بنهاية 2004، ثم إلى 103.7 في المائة بنهاية 2005، وارتفاع القيمة السوقية لـ73 شركة فقط 94.7 في المائة إلى أعلى من 1.1 تريليون ريال بنهاية 2004، ثم ارتفاع القيمة السوقية لـ77 شركة فقط 112.2 في المائة إلى أعلى 2.4 تريليون ريال بنهاية 2005، ووصلت قيمة التداول خلال الفترة نفسها إلى نحو 1.8 تريليون ريال خلال 2004، ثم ارتفعت إلى أعلى من 4.1 تريليون ريال خلال 2005، ولم تكتمل الإجابة عن كل ما تقدم إلا بعد أن وصل مكرر أرباح السوق (السعر / العائد) إلى أعلى من 112.2 مرة بحلول شباط (فبراير) 2006. لا ينافس الدروس المستقاة من التاريخ أي درس مهما بلغت درجة شرحه وإيضاحه، كما لا يتجاهلها أي ذي بصيرة وعقل رشيد يرى فيها غاية العبرة والعظة، والأهمية القصوى لأن يضيفها إلى مخزونه الثري من التجربة والخبرة والحكمة. دع عنك خلاصة نظرته المتأنية إلى ما دار ويدور حوله في مختلف أنحاء العالم من تجارب وأحداث وتطورات اقتصادية ومالية، كونها محل الحديث والنقاش هنا. في الوقت الذي ننشد جميعا خلاله "التوازن" في رسم السياسات والبرامج، وألا يحمل بعضها ما قد يؤثر سلبا في بعضها بعضا، أو قد يؤدي إلى تعطيل أي منها أو تأخيره، والأهمية القصوى بأن تأتي معززة لبعضها بعضا في ركائزها وتوجهاتها ضمن منظومة متكاملة، بدءا من مرحلة وضعها ورسمها وصولا إلى مرحلة تنفيذها والعمل بها، وضرورة المتابعة والمراقبة للأداء من خلال المؤشرات الدورية المنتظمة التي يتم نشرها رسميا، والتدخل فورا بالإصلاح والمعالجة وتصحيح المسار حال ظهور ما يؤكد حدوث أي انحراف عن الأهداف المحددة. وكما سبق الإشارة إليه في المقال السابق "قراءة المؤشرات الاقتصادية واتخاذ الحلول اللازمة"، الذي يؤكد استكمال الحديث هنا عن السياسات والبرامج، والأهمية القصوى لإقرار "التوازن" كركيزة أساسية لتلك السياسات والبرامج في جميع مراحلها، وألا يطغى على جزء منها دون آخر، أي شكل من الاندفاع المفرط في التنفيذ لبعضها، أو التراخي المعطل لبعضها الآخر. وتم الاستشهاد في هذا السياق بحالتين: الأولى المتعلقة بالتطورات القائمة خلال الفترة الراهنة في سوق العمل المحلية، أظهرت ارتفاعا في حجم تحويلات العمالة الوافدة للخارج 18.6 في المائة حتى نهاية تشرين الأول (أكتوبر) من العام الجاري، وارتفاعا في معدلات الاستقدام، في الوقت ذاته الذي ارتفع معدل البطالة إلى 15.4 في المائة، وسجل القطاع الخاص تراجعا 10.1 في المائة بنهاية الربع الثاني من العام الجاري. والحالة الثانية المتعلقة بالارتفاع المطرد في حجم القروض البنكية على الأفراد بشكل عام، والقروض العقارية بشكل خاص تجاوز 55.1 في المائة بنهاية الربع الثالث من العام الجاري، الذي على الرغم من النظر إليه من زاوية زيادة تملك المساكن أنه سرع من وتيرتها بصورة غير مسبوقة، إلا أنه من زوايا أخرى أسهم في ارتفاع حجم القروض ونسب الاستقطاع، كما أكده البيان الأخير للبنك المركزي السعودي، وعودة وتيرة التضخم إلى الأسعار السوقية للأراضي والعقارات، وكلتا النتيجتين ستكون لهما آثارهما العكسية في حجم الطلب الاستهلاكي، بانخفاض الدخل المتاح للإنفاق من قبل الأفراد والأسر، ما سيؤثر سلبا في منشآت القطاع الخاص بانخفاض التدفقات الداخلة عليها، في الوقت ذاته المطلوب من تلك المنشآت أن تسهم أكبر في النمو الاقتصادي وفي زيادة توطين الوظائف، وهو الهدف الاستراتيجي الذي سيواجه تحققه مزيدا من التحديات الجسيمة في ظل ارتفاع حجم الاقتراض ونسب استقطاع سداده لفترات زمنية طويلة. ولا يعني هذا التركيز على تلك المتغيرات بعينها إغفال بقية المتغيرات والتحديات التي يواجهها الاقتصاد الوطني بشكل عام، والقطاع الخاص على وجه الخصوص، في ظل الظروف الراهنة التي يمر بها جميع اقتصادات وأسواق العالم. بل إن أخذ تلك المتغيرات الأخرى في عين الاعتبار، يرفع بدرجة كبيرة جدا من أهمية الالتفات إلى محل الحديث أعلاه، وأن على الأجهزة التنفيذية كافة ذات العلاقة القيام بمراقبة ومراجعة السياسات والبرامج الراهنة في هذا الشأن، والخروج من ذلك ببرامج وآليات عمل تستهدف الحد بصورة ملموسة من الآثار العكسية المحتملة في الاستقرار الاقتصادي عموما، وبصورة أكثر تحديدا، في استقرار القطاع الخاص وفرص نموه وتوسع وتنوع نشاطاته، وزيادة قدرته على المساهمة في النمو الاقتصادي والتوظيف، إضافة إلى استقرار مستويات المعيشة بالنسبة إلى الأفراد والأسر، وبذل أقصى الجهود لأجل حماية هذا الجانب، والعمل الدؤوب على تعزيزه وضمان قوته وصلابته.

مشاركة :